منذ أن أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن سلسلة من الإجراءات الجمركية الجديدة، عاد شبح الحرب التجارية ليخيّم من جديد على الاقتصاد العالمي. ففي واحدة من أكثر التحركات إثارة للجدل، قررت الإدارة الأمريكية فرض رسوم جمركية مشددة على واردات من مختلف دول العالم، وفي مقدمتها الصين، متذرعة بحماية الصناعة الوطنية وتعزيز التوظيف في الداخل الأمريكي.
لكن ما الذي قد تعنيه هذه الحرب التجارية للعالم من منظور ماكرو اقتصادي؟ وكيف يمكن أن تؤثر على النمو، والتضخم، والاستثمار، وسلاسل التوريد العالمية؟
جذور الأزمة: من الحمائية إلى المواجهة
السياسات الجمركية التي يتبناها الرئيس ترامب لا تأتي في فراغ، فمنذ وصوله إلى البيت الأبيض، أعلن أن الولايات المتحدة "تُستغل تجاريًا" من قبل دول مثل الصين وألمانيا والمكسيك، متّهمًا هذه الدول بإغراق الأسواق الأمريكية بمنتجات رخيصة تضر بالصناعة الأمريكية. ومن هذا المنطلق، بدأت إدارة ترامب بفرض تعريفات جمركية على مجموعة واسعة من المنتجات الصينية، بدءًا من الصلب والألمنيوم، وصولًا إلى الإلكترونيات والملابس، بقيمة تجاوزت 300 مليار دولار.
وفي رد فعل متوقع، ردّت الصين بفرض تعريفات مضادة على المنتجات الأمريكية، ما أدخل أكبر اقتصادين في العالم في دوامة من الإجراءات العقابية المتبادلة، حيث رفع ترامب الجمارك المفروضة على الصين إلى نسبة هائلة تبلغ 104%، مؤكّدًا أنّها ستبقى عند هذا المستوى في حال لم تتراجع الصين عن الرد بالمثل.
وأخذت دول أخرى مثل الاتحاد الأوروبي وكندا والهند حذرها، إما بمحاولة التهدئة أو بإعداد قوائم مماثلة من الرسوم الانتقامية.
منظور ماكرو اقتصادي: تداعيات أوسع من مجرد ضرائب
على المدى القصير، قد تبدو السياسات الجمركية مفيدة من حيث تقليص العجز التجاري، ورفع إيرادات الحكومة من الرسوم المفروضة. لكنها من منظور ماكرو اقتصادي تحمل مجموعة من المخاطر المعقدة والعميقة:
1. ارتفاع الأسعار والتضخم
من البديهي أن تؤدي الرسوم الجمركية إلى ارتفاع أسعار السلع المستوردة. وهذا بدوره ينعكس على المستهلكين، لا سيما في الولايات المتحدة، الذين يضطرون لدفع المزيد مقابل نفس السلع، مما يؤدي إلى تسارع التضخم. وقد يضطر الاحتياطي الفيدرالي إلى رفع أسعار الفائدة للسيطرة على التضخم، وهو ما يُضعف الاستثمار ويُبطئ النمو الاقتصادي.
2. اضطراب سلاسل التوريد العالمية
أحد أعمدة الاقتصاد العالمي المعاصر هو سلاسل التوريد العابرة للحدود. فعلى سبيل المثال، الهاتف الذكي الواحد قد تُصنع أجزاؤه في خمس دول مختلفة. ومع فرض الجمارك، تتعطل هذه السلاسل، وتزيد تكلفة الإنتاج، مما يُفقد الصناعات العالمية مرونتها ويخفض كفاءتها.
3. تباطؤ النمو العالمي
بحسب صندوق النقد الدولي، يمكن أن تؤدي حرب تجارية شاملة بين الولايات المتحدة والصين إلى خفض الناتج المحلي الإجمالي العالمي بنسبة قد تصل إلى 0.5% على مدى عامين. والأسواق الناشئة ستكون الأكثر تأثرًا، نظرًا لاعتمادها على التجارة كمصدر رئيسي للنمو.
4. ضرب ثقة المستثمرين
الأسواق المالية حساسة للغاية لأي تغيّر في بيئة الأعمال. وحالة عدم اليقين التي تولّدها الحروب التجارية قد تدفع المستثمرين إلى تجميد خططهم أو نقل رؤوس أموالهم إلى ملاذات أكثر أمانًا. وقد شهدنا بالفعل تراجعات حادة في أسواق الأسهم العالمية في أعقاب التصعيدات الأخيرة في النزاع التجاري.
الصين في عين العاصفة
الصين، بصفتها المستهدفة الرئيسية لهذه الجمارك، ليست خصمًا سهلًا. فبينما تعتمد على الأسواق الخارجية، تمتلك بكين أدوات عديدة للرد، بدءًا من فرض تعريفات مضادة، مرورًا بتقييد الصادرات من المعادن النادرة، ووصولًا إلى خفض قيمة عملتها لتعويض الأثر السلبي للرسوم الجمركية. كما أنها تسعى بقوة إلى تعزيز طلبها الداخلي وتنويع شراكاتها التجارية، خصوصًا عبر مبادرة "الحزام والطريق".
مستقبل النظام التجاري العالمي
إذا استمرت هذه السياسات الحمائية، فإن أحد أكبر الخاسرين سيكون نظام التجارة الحرة الذي تقوده منظمة التجارة العالمية. ففرض الجمارك من طرف واحد، دون تنسيق دولي، يُضعف من مكانة المنظمة ويشجع دولًا أخرى على اتخاذ إجراءات مماثلة. هذا يهدد بعودة العالم إلى فترة ما قبل الحرب العالمية الثانية، حين كانت الحمائية سببًا رئيسيًا في تعميق الكساد الكبير.
الاقتصاد الأمريكي: المستفيد أم الضحية؟
رغم نوايا ترامب بحماية الصناعة الأمريكية، فإن العديد من الشركات الأمريكية تُعاني فعليًا من هذه الجمارك، لا سيما تلك التي تعتمد على مكونات مستوردة. فشركات السيارات والإلكترونيات والزراعة باتت تدفع ثمنًا باهظًا، سواء من خلال ارتفاع التكاليف أو خسارة الأسواق الخارجية.
وقد بدأت بعض الشركات بنقل خطوط إنتاجها خارج الولايات المتحدة لتفادي الرسوم، وهو ما يتعارض مع الهدف الأصلي للسياسات الجمركية. والأسوأ من ذلك، أن القطاع الزراعي الأمريكي تضرر بشدة نتيجة الرد الصيني، ما دفع الحكومة إلى تخصيص مليارات الدولارات كدعم للمزارعين المتضررين.
انعكاسات محتملة على الاقتصاد الإسرائيلي
من منظور الاقتصاد الكلي، تُثير الإجراءات الجمركية الجديدة التي فرضتها الولايات المتحدة بقيادة دونالد ترامب، مخاوف كبيرة لدى الاقتصادات المرتبطة بسلاسل التوريد العالمية، ومن بينها الاقتصاد الإسرائيلي. إذ تعتمد إسرائيل بشكل كبير على التصدير، لا سيما في مجالات التكنولوجيا المتقدمة، والأدوية، والمكونات الصناعية الدقيقة. ومع تزايد النزعة الحمائية في الأسواق الكبرى، وخصوصًا الولايات المتحدة والصين، قد تجد الشركات الإسرائيلية نفسها وسط عاصفة تجارية لا ناقة لها فيها ولا جمل.
وإذا تصاعدت الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين، فإن الطلب العالمي على المنتجات التكنولوجية والابتكارات قد يتباطأ، وهو ما قد يؤدي إلى انخفاض عوائد الصادرات الإسرائيلية. أضف إلى ذلك، فإن تقلص الاستثمار الأجنبي بسبب الشكوك الاقتصادية العالمية، قد ينعكس سلبًا على قطاع الشركات الناشئة في إسرائيل، الذي يُعد من أعمدة الاقتصاد في إسرائيل.
وتشير تقديرات مراكز الأبحاث الاقتصادية في البلاد إلى أن استمرار هذا الاتجاه قد يؤدي إلى تباطؤ النمو الإسرائيلي بنسبة تتراوح بين 0.5% إلى 1% خلال العامين المقبلين، في حال دخول العالم في موجة من النزاعات التجارية الحادة. ولذلك، بدأت الحكومة الإسرائيلية باتخاذ خطوات لفتح أسواق بديلة، خصوصًا في آسيا وأفريقيا، لتقليل الاعتماد على الأسواق المتقلبة كالسوق الأمريكية.
خلاصة
من منظور ماكرو اقتصادي، فإن الحرب التجارية التي بدأت تلوح في الأفق بسبب جمارك ترامب تُعد سيفًا ذا حدّين. فرغم ما قد تحققه من مكاسب آنية، فإن كلفتها الاقتصادية على المدى البعيد قد تكون فادحة، ليس فقط للولايات المتحدة والصين، بل للاقتصاد العالمي بأسره.
في عالم مترابط ومعتمد على التجارة، لا يمكن النظر إلى الضرائب الجمركية على أنها مجرد أداة مالية، بل هي خطوة سياسية واقتصادية كبرى تحمل تداعيات تتجاوز الجمارك نفسها. وفي حال لم تُعالج هذه النزاعات ضمن إطار دولي مشترك، فإننا نواجه خطر انقسام اقتصادي عالمي قد يُعيد تشكيل النظام المالي الدولي من جذوره.