بين فضل شاكر وغزّة

بين فضل شاكر وغزّة

في الأيّام الماضية، شغل خبر عودة الفنّان اللبناني فضل شاكر إلى الساحة الفنيّة مواقعَ التواصل، وتصدّر منصّات الترفيه والمحادثات اليوميّة كأنّ شيئًا عظيمًا حدث. تداول الناس صورته الجديدة، صوته الذي "لن يتغيّر"، رومانسيّته التي لا ينافسه فيها أحد من الفنّانين، وقصّة "العودة بعد العزلة"، متناسين – أو متنازلين عن –عزلة أخرى لا تبعد كثيرا عن فضل شاكر ولا عنّا.



على مدار عامين غزّة تموت


وصلَ صوتُ الأطفال في غزّة إلى نشرات الأخبار، لكنّه لم يصل إلى ضميرنا نحن الشعوب العربيّة، ضميرٍ مستعدّ أن يستقبل نغمة موسيقيّة جديدة أكثر من استعداده لأن يسمع صرخة تحت الركام.

كانت صور الأجساد المتفسّخة، والمجازر الصامتة، ومحو العائلات من السجلّات المدنيّة، تخرج ببطء عبر تقارير مُجهدة، لا تلقى نصيبها من التداول ولا التفاعل.

بين إبادة جماعيّة واضحة وعلنيّة، وعودة مطرب إلى "اللايف ستايل"، بدا واضحًا أيّ كفّة تميل لها الحماسة الجماعيّة.


ليس في الأمر استخفاف بصوت فضل شاكر، ولا إنكار لفرادة حضوره.


صوته الجميل، الذي ظلّ عالقًا في ذاكرة أجيال، هو ذلك النسيج النادر بين الحزن والنبل، بين الشجن الذي لا يتصنّع، والصدق الذي يعبُر الأذنَ إلى القلب دون حاجة إلى زخرفة.


حين عاد، عادت معه نغمة افتقدها كثيرون مِنّا في زمنٍ صار الصوت العالي هو القاعدة، والصراخ هو الغناء، والسطحيّة هي الصناعة.




عودته ليست بلا معنى، بل فيها تذكير بما كانت عليه الساحة الفنيّة يومًا، قبل أن تتحوّل إلى معرض صاخب لكلّ من يملك "فُلُوْ" و"ترند" و"ماركتينغ". في عودته، شيء يشبه احتجاجًا ناعمًا على انحدار الذوق العامّ، وعلى الاستسهال الذي أكل الأخضر واليابس في الأغنية العربيّة.


هو فضل شاكر، بصوته النقيّ، دون مؤثّرات، دون استعراض. مجرّد صوتٍ يوجعك لأنّه جميل.


لكنّ السؤال ليس هنا.

السؤال هو: لماذا نُغنّي مع فضل، ولا نصرخ مع غزّة؟


ليس الخطأ في أن نُحبّ الموسيقى. ولا في أن نغفر، إنْ أردنا، لمن أخطأ. لكنّ الخطأ هو أن نفقد البوصلة، فنحتفي بالفرح بينما نتواطأ بصمت مع الفاجعة.


عودة فضل شاكر – الذي ارتبط اسمه في ذاكرة الناس بسياقات سياسيّة دمويّة خلال الأزمة السوريّة – ليست حدثًا فنيًّا خالصًا، بل هي عودة محمّلة بالأسئلة. كيف يُعاد تدوير الرموز؟ وكيف يُغسَل التاريخ؟ وما معنى الغفران في زمنٍ لا تُحاسَب إسرائيل فيه، على إبادة جماعيّة في بثّ حيّ ومباشر؟


لكنّ الأخطر من قصّة عودة فضل، هو نحن. نحن الذين اخترنا أن ننشغل بـ"الحنين إلى الصوت"، بدل أن ننشغل بـ"الحنين إلى الإنسان". أن نُهرول إلى النغمة العاطفيّة، ونتغاضى عن الدم. أن نُعيد نشر أغنياته، بينما لا نُعيد نشر خريطة تُبيّن مواقع المجازر في رفح وخانيونس.




ربّما لأنّ غزة ثقيلة، وضمائرنا هشّة.


غزّة التي يُمحى صوتها الحقيقيّ، تُقصف بيوتُها، تُفنى عائلاتها، تُحاصر خبزًا وكهرباء وصورة، غزّة التي تنزف منذ شهور، هل سمعناها؟

هل أصغينا إلى صوتها وهي تصرخ من تحت الركام؟

هل سمعنا نداء الطفل الذي يسأل "وين راح أبوي؟"

هل شعرْنا بالوجع الذي في صوت أُمّ تدفن أسماء أطفالها السبعة في صندوق واحد؟ لماذا تفاعلنا مع الصوت الغنائيّ أكثر من تفاعلنا مع الصوت الإنسانيّ؟



قد يكون لصوت فضل شاكر نصيبه من الحنين، من الذاكرة، من النوستالجيا. لكنْ لِصَوْت غزّة نصيبه من الحقّ. من العدالة. من الكرامة. وهذا نصيب لا نملك ترفَ تجاهله.


ربّما لأنّ مواجهة الجريمة تتطلّب ضميرًا حيًّا، بينما الاستماع إلى أغنية يتطلّب فقط سمّاعة جيّدة وقصّة حب انتهت بفراق.

هذه ليست دعوة لمقاطعة فضل شاكر ولا للتحريض ضدّه، بل دعوتنا للانتباه: أن نقيس ما يحرّكنا، وما يتركنا باردين. أن نضع اليد على الخلل في أولويّاتنا. أن نسأل أنفسنا: هل نحن ضحايا تسطيح متعمّد؟ أم شركاء في صناعته؟


بين فضل شاكر وغزّة، ثمّة مرآة. من اختار أن ينظر فيها، رأى نفسه كما هو. ومن غضّ البصر، يغنّي فوق الركام.


نعم، نُحبّ صوت فضل شاكر. لكن، ما قيمة الصوت الجميل إذا لم يُوقظ فينا شيئًا جميلًا؟


وما جدوى حواسّنا، إذا لم نستطع أن نسمع غزّة؟

في هذا الزمن، صار الصوت الجميل حدثًا، والصوت الصادق خبرًا قديمًا. لكن إن كانت العودة إلى فضل شاكر تُعيد بعض الجمال إلى عالم الفنّ، فلعلّ العودة إلى غزّة تُعيد بعض الإنسانيّة إلى هذا العالم الحَجَر.

يتم الاستخدام المواد وفقًا للمادة 27 أ من قانون حقوق التأليف والنشر 2007، وإن كنت تعتقد أنه تم انتهاك حقك، بصفتك مالكًا لهذه الحقوق في المواد التي تظهر على الموقع، فيمكنك التواصل معنا عبر البريد الإلكتروني على العنوان التالي: info@ashams.com والطلب بالتوقف عن استخدام المواد، مع ذكر اسمك الكامل ورقم هاتفك وإرفاق تصوير للشاشة ورابط للصفحة ذات الصلة على موقع الشمس. وشكرًا!

phone Icon

احصل على تطبيق اذاعة الشمس وكن على
إطلاع دائم بالأخبار أولاً بأول

Download on the App Store Get it on Google Play