لطالما كانت كرة القدم الأوروبية محط أنظار العالم، حيث تهيمن الدوريات الكبرى مثل الدوري الإنجليزي الممتاز، والدوري الإسباني، والدوري الألماني، والدوري الإيطالي، والدوري الفرنسي على المشهد الكروي العالمي لعقود. ومع ذلك، بدأت ملامح جديدة تتشكل في المشهد الكروي الدولي، ومن أبرزها صعود الدوري السعودي لكرة القدم بشكل غير مسبوق خلال السنوات القليلة الماضية.
هذا التحول الكبير دفع الكثيرين للتساؤل: هل أصبح الدوري السعودي منافسًا حقيقيًّا لهذه الدوريات الكبرى؟ الجواب على هذا السؤال يتطلب فهمًا عميقًا لطبيعة التحول الجاري في السعودية، ومعرفة حدود القوة والتأثير التي بات يمتلكها الدوري، ومدى استمراريته واستقراره مستقبلًا.
خطوة كرويّة كجزء من تغيير شامل
من الناحية الاستثمارية، لا يمكن إنكار أن السعودية خطت خطوات استثنائية في تعزيز حضورها الكروي على مستوى العالم. فقد تم ضخ مليارات الريالات في تطوير الأندية، وتحسين البنية التحتية، واستقطاب أفضل النجوم العالميين من أمثال كريستيانو رونالدو، كريم بنزيمة، نيمار، وكانتي وغيرهم من اللاعبين الذين لطالما تألقوا في كبرى الملاعب الأوروبية.
shutterstock
انتقال هؤلاء النجوم إلى الدوري السعودي لم يكن مجرد خطوة كروية، بل كان يحمل أبعادًا تسويقية وإعلامية كبيرة، حيث تحول الدوري من مسابقة محلية إلى منتج كروي يُشاهد في مختلف أنحاء العالم. هذه الصفقات أحدثت صدمة في سوق الانتقالات، ودفعت البعض للتساؤل ما إذا كانت الأندية السعودية قد بدأت في تغيير قواعد اللعبة التي طالما كانت حكرًا على أندية أوروبا.
لكن المنافسة في كرة القدم لا تُقاس فقط بحجم النجوم أو قيمة الصفقات.
المنافسة الحقيقية تتعلق بجودة التنظيم، وعمق المنافسات، وتوازن الفرق، والقاعدة الجماهيرية، ومخرجات الأكاديميات، والإسهام الفني في تطوير اللعبة. وعلى الرغم من أن الدوري السعودي تطور كثيرًا من حيث مستوى البث والنقل التلفزيوني والتنظيم الداخلي للمباريات، إلا أنه لا يزال بحاجة إلى وقت طويل ليضاهي الدوريات الكبرى في هذه الجوانب. فعلى سبيل المثال، الدوريات الأوروبية تتمتع بمنظومات متكاملة من الأكاديميات التي تخرّج جيلًا بعد جيل من اللاعبين المحليين الذين يصعدون إلى الفريق الأول، بينما لا يزال الاعتماد في السعودية قائمًا بشكل كبير على اللاعبين الأجانب لتعزيز جودة الفرق.
ومن المهم أيضًا النظر في مدى عمق المنافسة داخل الدوري السعودي. فحتى وقت قريب، كانت هناك هيمنة واضحة من أندية مثل الهلال والنصر، ومع أن المنافسة بدأت تتسع تدريجيًا بدخول أندية أخرى مثل الاتحاد والأهلي في الصورة، إلا أن هذا التنافس لا يزال بحاجة إلى الاتساع والتنوع أكثر ليُضفي طابع الإثارة الذي نراه في الدوري الإنجليزي مثلًا، حيث يمكن أن يخسر المتصدر من متذيل الترتيب بسهولة، أو في الدوري الإسباني الذي يشهد صراعًا تقليديًا قويًا بين برشلونة وريال مدريد، بالإضافة إلى صعود أتلتيكو مدريد وأندية أخرى في السنوات الأخيرة.
نقص في الشهرة الدولية والتجربة التنافسية سببه الغياب عن المنصات الأوربية
ومن أوجه النقص التي لا يمكن تجاهلها أيضًا، غياب الأندية السعودية عن أهم المسابقات الأوروبية، وهي البطولات التي تمنح الأندية شهرة دولية وتجربة تنافسية رفيعة المستوى. فالدوري السعودي، بحكم موقعه الجغرافي وانتمائه للاتحاد الآسيوي، لا يمكن لأنديته المشاركة في بطولات مثل دوري أبطال أوروبا أو الدوري الأوروبي، وهي المسابقات التي تُعدّ منصة لصناعة الأساطير الكروية وتوسيع قاعدة المشجعين عالميًا.
هذا الغياب يُضعف من قدرة الأندية السعودية على الدخول في مقارنات مباشرة مع أندية القمة في أوروبا، ويقلل من فرصة اختبار فرقها في مواجهات كروية من العيار الثقيل أمام خصوم مثل ريال مدريد أو مانشستر سيتي. كما يؤثر على تقييم الجماهير العالمية لمستوى الدوري، ويجعل منه – رغم ما حققه من تطور – منافساً خارج إطار المنظومة التقليدية لكرة القدم العالمية.
رؤية السعودية 2030
نقطة القوة الحقيقية التي قد تجعل من الدوري السعودي منافسًا مستقبليًا هي الرؤية الاستراتيجية التي تقف خلف هذا التطوير، والمتمثلة في رؤية السعودية 2030، والتي لا تقتصر على الاستثمار في كرة القدم فقط، بل تشمل تطوير القطاع الرياضي ككل ليكون رافدًا اقتصاديًا وسياحيًا وثقافيًا للبلاد. وهذا يعطي الدوري السعودي زخمًا خاصًا، ويجعله يتحرك بدعم سياسي ومؤسسي لم يكن متوفرًا في السابق. كما أن الاهتمام الحكومي بتطوير المواهب السعودية وتحسين جودة المدربين المحليين يشير إلى نية واضحة لبناء قاعدة صلبة تستمر على المدى الطويل.
shutterstock
لكن رغم كل هذا التقدم، لا يمكننا بعد اعتبار الدوري السعودي منافسًا مباشرًا للدوريات الأوروبية الكبرى، خاصة من حيث عدد المتابعين حول العالم، وقيمة البث التلفزيوني، ومدى انتشار العلامات التجارية للأندية السعودية.
فالدوريات الأوروبية لا تزال تسيطر على السوق العالمي من حيث العائدات المالية، وقوة الرعاة، وقوة الحضور الإعلامي والجماهيري. كما أن تجربة اللاعب في الدوريات الأوروبية تختلف كليًا من حيث الضغط التنافسي، ونوعية الملاعب، ودرجة الاحتراف الإداري والتنظيمي التي تراكمت عبر عقود طويلة من العمل المنهجي.
خطوات هامة ولكنها لا تزال أولية
لذلك، يمكن القول إن الدوري السعودي بدأ خطوات مهمة نحو التحول إلى دوري عالمي ومؤثر، لكنه لا يزال في بداية الطريق، ويحتاج إلى وقت وخطط طويلة المدى لكي يثبت أنه ليس مجرد موجة مؤقتة ترتبط بأسماء النجوم، بل مشروع مستدام قادر على النمو الذاتي. ومن المهم جداً أن يتم تعزيز المواهب المحلية، وتشجيع المدربين السعوديين، وبناء فرق قوية تنافس ليس فقط في آسيا، بل في بطولات العالم للأندية، وربما مستقبلًا في بطولات عابرة للقارات.
في الختام، لا يمكننا إنكار أن الدوري السعودي أحدث ثورة حقيقية في كرة القدم الآسيوية، وأنه أصبح الآن تحت مجهر العالم، وهذا بحد ذاته إنجاز كبير. لكنه حتى هذه اللحظة لا يُعد منافسًا حقيقيًا للدوريات الأوروبية الكبرى، بل هو في طور التأسيس والطموح، وما يميّزه هو أنه يتحرك بسرعة غير تقليدية قد تختصر عليه سنوات طويلة من العمل. التحدي الحقيقي سيكون في الحفاظ على هذا الزخم، وبناء منظومة متكاملة تجعل من الدوري السعودي نموذجًا عربيًا ناجحًا يستحق أن يقف في مصاف الكبار.