في مشهد غير مسبوق، شهدت العاصمة الكولومبية بوغوتا انعقاد أول اجتماع وزاري طارئ لـ"مجموعة لاهاي"، وهي تكتل دولي جديد يضم دولًا من أميركا اللاتينية وأفريقيا وآسيا، يسعى إلى تحويل القانون الدولي من أدوات مجمدة إلى آليات ضغط ومحاسبة فعّالة، لا سيّما في ما يتعلق بالانتهاكات الإسرائيلية في قطاع غزة وسائر الأراضي الفلسطينية المحتلة.
على مدى يومين، اجتمع ممثلو نحو 30 دولة ووكالات تابعة للأمم المتحدة، إلى جانب خبراء قانونيين ومقرّرين أمميين وشخصيات سياسية بارزة، في قصر سان كارلوس – المقر الرسمي لوزارة الخارجية الكولومبية – في محاولة لصياغة رؤية مشتركة لمواجهة ما تعتبره المجموعة "إفلاتًا مزمنًا من العقاب" في التعامل مع الجرائم الإسرائيلية.
ثلاثة مطالب واضحة
تأسست "مجموعة لاهاي" في يناير/كانون الثاني الماضي في المدينة الهولندية الشهيرة بمؤسساتها القانونية، بقيادة جنوب أفريقيا وكولومبيا، واتّفقت على ثلاث مطالب استراتيجية:
- تنفيذ مذكرات التوقيف الدولية الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه السابق يوآف غالانت.
- منع تصدير الأسلحة إلى إسرائيل، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر
- منع السفن المرتبطة بالصناعات العسكرية الإسرائيلية من دخول موانئ الدول الأعضاء في المجموعة.
هذه الخطوات تعكس انتقالًا من خطاب الإدانة إلى سياسات ملموسة قد تؤثر فعليًا على الاقتصاد العسكري الإسرائيلي وشبكات الدعم الدولي.
shutterstock
غضب أميركي… واتهامات "بالراديكالية"
لم تتأخر واشنطن في الرد، ففي بيان رسمي صادر عن وزارة الخارجية الأميركية، وصفت الولايات المتحدة الاجتماع بأنه "محاولة لاستغلال القانون الدولي كسلاح سياسي"، مهاجمة بشكل مباشر جنوب أفريقيا وكوبا، وواصفة إياهما بـ"نظامين شيوعيين استبداديين" يسعيان إلى "تقويض سيادة الدول الديمقراطية من خلال عزل إسرائيل ومحاولة نزع الشرعية عنها".
وأضاف البيان أن الولايات المتحدة "ستدافع بقوة عن مصالحها، وعن حلفائها ومن ضمنهم إسرائيل، في وجه هذه الحرب القانونية والدبلوماسية المنسقة".
هذا الهجوم يعكس القلق الأميركي من تزايد الشرعية القانونية الدولية للمحاسبة، خاصة مع تصاعد الضغوط على المحكمة الجنائية الدولية والادعاء العام.
رسالة تحدٍ من داخل القاعة
من أبرز وجوه الاجتماع الوزاري، كانت فرانشيسكا ألبانيز، المقرّرة الأممية الخاصة المعنية بفلسطين، التي شاركت في جلساته رغم إعلان الإدارة الأميركية فرض عقوبات عليها مؤخرا.
حضور ألبانيز، التي سبق واتّهمت إسرائيل بارتكاب "إبادة جماعية ممنهجة"، اعتُبر بحد ذاته رسالة تحدٍ للضغط السياسي الغربي على الأصوات الحقوقية المستقلة، خصوصًا بعد محاولات متكررة لتشويه عملها وتقييد حركتها الدبلوماسية.
في كلمتها، وصفت ألبانيز الاجتماع بأنه "خطوة مركزية في المساعي الدولية لوقف الإبادة في غزة"، مؤكدة أن "القانون الدولي ليس انتقائيًا، ولا يجب أن يُستخدم لحماية الأقوياء على حساب الضحايا".
تهديدات للمحكمة… وضغوط على المدعي العام
في خلفية المشهد، ظهرت معطيات مثيرة في تحقيق استقصائي نشره موقع Middle East Eye، كشف عن تهديدات مباشرة تعرّض لها المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، كريم خان، من محامٍ بريطاني إسرائيلي على صلة وثيقة بحكومة نتنياهو.
وبحسب ما ورد، فإن المحامي نيكولاس كوفمان قال لخان: "إذا لم تسحب مذكرات التوقيف... فسيدمّرونك وسيدمّرون المحكمة".
وبحسب مذكرة داخلية اطّلع عليها الموقع، فسّر خان وزوجته هذا الكلام على أنه تهديد مباشر، مما أضاف مزيدًا من التوتر في محيط المحكمة، التي كانت أصلًا تتعرض لضغوط بريطانية وأمريكية.
ففي مكالمة هاتفية، حذّر وزير الخارجية البريطاني، ديفيد لامي، خان من أن إصدار أوامر توقيف جديدة سيكون "بمثابة إلقاء قنبلة هيدروجينية".
خان الذي تنحّى لاحقًا عن منصبه، وسط مزاعم متجددة بالتحرّش، بينما فُرضت عليه وعلى عدد من قضاة المحكمة الجنائية عقوبات أميركية.
كولومبيا تقود المواجهة وتتحدّى واشنطن
الرئيس الكولومبي غوستافو بيترو، المعروف بمواقفه اليسارية الحادة، أكّد أن بلاده لن تتراجع عن مواقفها، وكتب في مقال بصحيفة The Guardian:
"من واجب جميع الحكومات الوقوف في وجه إسرائيل... الهدف من مجموعة لاهاي هو تحويل مبدأ (لا أحد فوق القانون) إلى أدوات ملموسة توقف الجرائم في غزة."
وكانت كولومبيا قد قطعت علاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل في مايو/أيار الماضي، وسبق لبيترو أن صرّح في الأمم المتحدة: "عندما تموت غزة، تموت البشرية جمعاء".
مواجهة مفتوحة... وعدالة على المحك
الاجتماع الوزاري في بوغوتا لم يكن عاديًا. فقد قدّم ملامح تحوّل جديد في المعادلة الدولية: من إدانة رمزية إلى تنسيق دولي سياسي وقانوني فعّال قد يشكّل ضغطًا غير مسبوق على إسرائيل، أو على الأقل على داعميها الدوليين.
لكن المواجهة تبقى غير متكافئة: أدوات القانون في مواجهة سطوة السياسة، وقرارات المحكمة في وجه نفوذ الدول الكبرى.
ومع استمرار الحرب على غزة، وتعطّل كل مسارات الحل السياسي، يبرز سؤال كبير:
هل تستطيع مجموعة لاهاي تحويل القانون الدولي إلى قوة فاعلة في ميزان القوى؟ أم ستُفرَغ أدوات العدالة من مضمونها مرة أخرى؟