تجاوزت جرائم القتل في المجتمع العربي داخل الخط الأخضر كلّ ما هو مألوف، لم يعد القتل يتمّ في الشارع أو عبر كمائن عابرة، بل دخل مرحلة أكثر خطورة ورمزية: القتل متنكرًا بزيّ الشرطة.
هذه الظاهرة، التي ازدادت في الفترة الأخيرة، لا تعبّر فقط عن وحشية المجرم، بل تكشف أيضًا عن فراغ أمني وتواطؤ سلطوي يجعل من الجريمة فعلًا مضاعفًا: قتل الأفراد وقتل الثقة بالشرعية.
الشرعية المسروقة
ارتداء زيّ الشرطة لا يعني مجرد إخفاء هوية الجاني، بل هو سطو على رمز الدولة الرسمي. فالزيّ الذي يُفترض أن يرمز للإجراءات القانونية الموثقة – كالاعتقال أو التفتيش أو الحضور للمحكمة – يتحوّل إلى قناع مختلف.
وهنا تكمن المفارقة: المجرم لا يتخفى فقط، بل يعلن أن القانون نفسه صار أداة في يده.
بهذا المعنى، الجريمة تتجاوز تصفية الحسابات الفردية لتصبح إعلانًا فجًّا بأن الدولة غائبة أو متواطئة، وأن المجرم قادر على سرقة صورة السلطة وتوظيفها ضد المجتمع.
حوادث متكررة ترسّخ النمط
لم يعد الحديث عن حالة فردية أو حادثة معزولة. الأسبوع الأخير وحده شهد جريمتين منفصلتين اعتمد فيهما المجرمون الأسلوب ذاته:
في بلدة نحف قُتل الممرض يزن قادري بعدما طرق ملثمان باب منزله. كانا يرتديان قبعات شبيهة بتلك التي يستخدمها رجال الشرطة ويحملان مصابيح يدوية. أعتقد أنه أمام قوة شرطية فجاء لفتح الباب، لكنهما أمطراه بالرصاص حتى أردياه قتيلًا.
وفي مدينة عرابة قُتل الشاب خالد بلال عاصلة بالأسلوب نفسه. طرق المجرمون باب منزله متنكرين بزيّ الشرطة، بحجة تفتيش المكان. وحين فتحت والدته الباب، اقتحموا المنزل وأطلقوا النار عليه فأردوه قتيلًا على الفور، فيما أصيب شقيقه التوأم بجروح متوسطة.
هذه الجرائم تعيد للأذهان حادثة الناصرة مطلع 2023، حين قُتل الشقيقان علي وخالد سعدي بنفس السيناريو: مسلحون ادّعوا أنهم شرطة، وما أن فُتح لهم الباب حتى نفذوا جريمتهم وغادروا.
حين يصبح القتل عرضًا مسرحيًا
هذه الجرائم لا تنفذ بخفية، بل بأسلوب استعراضي يوحي وكأننا أمام مسرحية دموية. المجرمون لا يكتفون بالقتل، بل يبتكرون في الشكل والسيناريو: زي رسمي، مصابيح، لغة بوليسية، اقتحام مسرحي.
الهدف ليس التخلص من الضحية فقط، بل إرسال رسالة مزدوجة: "نحن نتحكم في المشهد… ونملك أن نرتدي وجوه السلطة".
هذا يرفع مستوى المنافسة بين العصابات: من يبتكر الطريقة الأغرب والأكثر صدمة. وهكذا تتحول الجريمة إلى مسابقة في صناعة الرعب، حتى وصفها البعض ساخرًا بأنها ترشيحات للأوسكار في "إبداع القتل".
البعد النفسي والرمزي
التنكر بزيّ الشرطة يترك أثرًا نفسيًا عميقًا:
- إذلال المجتمع: الرسالة أن الحماية مستحيلة، حتى من طرف الدولة.
- تشويش الأمان: إذا كان الشرطي يمكن أن يكون قاتلًا، فمن يستطيع التمييز بين الحماية والخطر؟
- تطبيع الخوف: يصبح مشهد الشرطة ذاته مثار شك، ويترسخ في ذهن الناس أن الأمان وهم.
الشرطة الغائبة والدولة المستفيدة
المعضلة الأكبر ليست في إبداع المجرمين وحدهم، بل في تقصير وتواطؤ الشرطة، لعقود، يتهم المجتمع العربي الشرطة بأنها لا تتعامل مع جرائم القتل بجدية، وأنها تترك العصابات تتنامى وتبتكر، وتقفل غالبية الملفات "ضد مجهول".
اليوم، ومع هذه الظاهرة، يزداد الاتهام ثقلًا: كيف يعقل أن تنجح العصابات مرارًا في تنفيذ جرائم متنكرة بزيّ رسمي دون ردع؟ لماذا لم تُجرَّم حيازة هذا الزيّ بشكل صارم؟ ولماذا لا تُكشف التحقيقات للرأي العام؟
لماذا الآن؟ يمكن رصد عوامل رئيسية وراء تفشي الظاهرة:
- صعود العصابات وسعيها لتثبيت هيبتها عبر أساليب صادمة.
- ضعف الردع وتراجع ثقة الناس بالشرطة.
- التأثر بالثقافة المرئية (الأفلام، المسلسلات) حيث يتحول القاتل إلى بطل في عرض دموي.
- رسائل للخصوم: المجرم يقول لضحاياه: "لن يحميكم القانون… نحن من يلبس ثوب القانون."
القتل متنكرًا بزيّ الشرطة جريمة مضاعفة: قتل الفرد وقتل الثقة بالمؤسسات. الأخطر أنه يرسّخ شعورًا أن الدولة غائبة، بل مستفيدة من الانفلات. وإذا استمرت هذه الظاهرة بلا ردّ حازم، فلن يبقى الشرطي في نظر المواطن إلا قناعًا آخر للموت.