فتحت الحكومة السورية تحقيقًا جنائيًا واسعًا بعد كشف معلومات صادمة عن مقبرة جماعية في صحراء الضمير شرق دمشق، استُخدمت خلال عهد نظام بشار الأسد المخلوع لإخفاء آثار جرائم واسعة النطاق بحق آلاف الضحايا.
وبالتوازي مع التحقيق، أوعزت السلطات الجديدة للجيش بفرض حراسة مشددة على الموقع، في خطوة تهدف إلى حمايته من العبث وضمان الحفاظ على الأدلة المرتبطة بما وُصف بأنه إحدى أخطر عمليات طمس الحقائق في تاريخ النزاع السوري.
موقع الضمير كان في الأصل منشأة عسكرية ومستودعًا للأسلحة
وبحسب روايات ضابط سابق في الجيش السوري كان مطلعًا على تفاصيل العملية، فإن موقع الضمير كان في الأصل منشأة عسكرية ومستودعًا للأسلحة خلال حكم الأسد، غير أن الموقع أُخلي من العاملين فيه عام 2018، في إطار خطة سرية محكمة هدفت إلى إخفاء جثث آلاف الضحايا المدفونين في مقبرة جماعية بضواحي دمشق، عبر نقلها إلى هذا الموقع الصحراوي النائي.
وأُطلق على العملية من الدائرة المقربة من الأسد اسم "عملية نقل الأتربة"، تضمنت نبش مقبرة جماعية في منطقة القطيفة، ثم تحميل الجثث والرفات على شاحنات ونقلها لمسافة تقارب ساعة بالسيارة إلى منشأة الضمير المهجورة.
وجرت العملية على مدى سنوات في ظل تعتيم أمني كامل، مع فرض سرية صارمة على الموقع الذي بدا، وفق الشهود، خاليًا تقريبًا من أي وجود بشري باستثناء الجنود المرافقين للشاحنات.
ولمتابعة كل ما يخص "عرب 48" يُمكنك متابعة قناتنا الإخبارية على تلجرام
انتشار جنود في موقع الضمير
ومع سقوط نظام الأسد في كانون الأول/ديسمبر 2024، عاد اسم الضمير إلى الواجهة، وانتشر جنود في الموقع مجددًا، لكن هذه المرة بأوامر من الحكومة الجديدة التي أطاحت بالنظام السابق.
وأكد ضابط في الجيش ومسؤولون محليون، من بينهم الشيخ أبو عمر الطواق المسؤول الأمني في المنطقة، أن منشأة الضمير أُعيد تشغيلها كثكنة عسكرية ومستودع أسلحة في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، بعد سبع سنوات من الهجر.
وخلال الصيف الماضي، لم يكن الموقع يخضع لأي حراسة، ما أتاح لصحفيين من وكالة “رويترز” زيارته عدة مرات عقب اكتشاف وجود المقبرة الجماعية، غير أن الوضع تغيّر لاحقًا، إذ قال جندي متمركز في الموقع منتصف كانون الأول/ديسمبر إن الحكومة أقامت نقطة تفتيش عند مدخل المنشأة العسكرية بعد أسابيع من نشر تقرير استقصائي كشف تفاصيل المقبرة.
وأصبحت زيارة الموقع حاليًا مشروطة بالحصول على تصاريح رسمية من وزارة الدفاع.
نشاط متزايد للمركبات حول القاعدة الرئيسية في الضمير
وتُظهر صور أقمار اصطناعية منذ أواخر تشرين الثاني/نوفمبر نشاطًا متزايدًا للمركبات حول القاعدة الرئيسية في الضمير.
وأوضح مسؤول عسكري، فضّل عدم الكشف عن اسمه، أن إعادة تشغيل القاعدة تأتي ضمن جهود تأمين السيطرة على البلاد ومنع أطراف معادية من استغلال الموقع، خاصة أنه يقع على طريق صحراوي يربط مناطق لا تزال تضم خلايا لتنظيم “داعش” الإرهابي بالعاصمة دمشق.
الشرطة تفتح تحقيق حول المقبرة
على الصعيد القضائي، أعلن رئيس مخفر شرطة الضمير، جلال طبش، أن الشرطة فتحت تحقيقًا رسميًا حول المقبرة، شمل تصوير الموقع، وإجراء مسح للأراضي، والاستماع إلى شهود.
ومن أبرز هؤلاء الشهود أحمد غزال، وهو ميكانيكي شاحنات قال إنه شارك في إصلاح مركبات استخدمت لنقل الجثث والرفات.
وأكد غزال أنه قدّم للشرطة كل ما لديه من معلومات عن العملية وما شاهده خلال سنوات تنفيذها.
في موازاة ذلك، بدأت الهيئة الوطنية للمفقودين، التي تأسست بعد الإطاحة بالأسد، التحضير لمرحلة معقدة من العمل الجنائي والإنساني.
وأعلنت الهيئة أنها تدرب كوادرها وتؤسس مختبرات وفق المعايير الدولية لنبش المقابر الجماعية، على أن تبدأ عمليات استخراج الرفات من عدة مواقع تعود إلى عهد الأسد اعتبارًا من عام 2027.
وأُحيل تقرير الشرطة بشأن موقع الضمير إلى النائب العام في منطقة عدرا، القاضي زمن العبد الله، الذي أكد أن الأجهزة الأمنية تراجع وثائق حصلت عليها بعد سقوط النظام، بهدف تحديد مشتبه بهم متورطين في عملية الضمير داخل سوريا وخارجها، دون الكشف عن أسمائهم في هذه المرحلة بسبب استمرار التحقيق.
وتشير وثائق عسكرية وشهادات مدنية وعسكرية إلى أن العقيد مازن إسمندر كان المسؤول الأساسي عن الجوانب اللوجستية للعملية، وعند التواصل معه عبر وسيط، امتنع عن التعليق على التحقيقات أو التقارير المنشورة.
ويعيد هذا الملف تسليط الضوء على مرحلة كان فيها الأسد، عام 2018، يقترب من إعلان “نصره” في النزاع، ويسعى إلى استعادة شرعيته الدولية رغم اتهامات واسعة بارتكاب انتهاكات جسيمة.
نبش مقبرة القطيفة إخفاء الرفات في صحراء الضمير
وفي ذلك السياق، صدر أمر من القصر الرئاسي بنبش مقبرة القطيفة وإخفاء الرفات في صحراء الضمير.
وبحسب تحقيقات رويترز، نُفذت العملية على مدى عامين تقريبًا بين 2019 و2021، حيث كانت الشاحنات تنقل الجثث والأتربة أربع ليال أسبوعيًا.
واعتمد التحقيق على شهادات 13 شخصًا، وتحليل أكثر من 500 صورة أقمار اصطناعية، إلى جانب صور بطائرات مسيّرة أظهرت تغير لون التربة وحفر الخنادق، مؤكدة واحدة من أكثر المؤامرات سرية لإخفاء آثار الجرائم في سوريا.
اقرأ أيضا
دمشق بين نفي الانفجار وتصاعد التوتر.. وتأجيل زيارة قائد قسد للعاصمة