يثبت تاريخ العلاقات الدولية أنّه لا يمكن انتقال الهيمنة بين القوة العظمى السائدة والقوة العظمى الصاعدة بدون حرب.
فخ ثيوسيديدس
هذا الافتراض، المعروف بـ"فخ ثيوسيديدس"، يستند إلى أطروحة المؤرخ الإغريقي ثيوسيديدس الذي وثق في كتابه عن الحرب البيلوبونيسية أن صعود أثينا وخشية سبارتا من فقدان هيمنتها أدّى إلى الحرب. ومنذ ذلك الحين، استخدم مفكرون هذا النموذج لتحليل انتقالات الهيمنة بين القوى العالمية.
في العصر الحديث، أصبحت هذه الفرضية محط نقاش واسع في الأوساط الأكاديمية والاستراتيجية، وخاصة في سياق التنافس المتصاعد بين الولايات المتحدة الأمريكية، بوصفها القوة العظمى السائدة، وجمهورية الصين الشعبية، بوصفها القوة الصاعدة التي تسعى لتغيير النظام الدولي القائم.
shutterstock
الواقعية الهجومية في العلاقات الدولية في مقابل الواقعية الدفاعية
من أبرز الأصوات التي أعادت إحياء هذا النقاش هو البروفيسور جون ميرشايمر، أحد رواد نظرية الواقعية الهجومية في العلاقات الدولية. يرى ميرشايمر أن النظام الدولي تحكمه قوى الهيمنة والمصالح الاستراتيجية، وأن القوى الصاعدة غالبًا ما تتحدى الوضع القائم، مما يدفع القوى السائدة إلى الرد بطرق قد تؤدي إلى صراعات مباشرة. في كتابه "مأساة سياسة القوى العظمى" (The Tragedy of Great Power Politics)، يحذر ميرشايمر من أن صعود الصين لا يمكن أن يكون سلميًا، وأن الولايات المتحدة ستسعى إلى احتوائها كما فعلت مع الاتحاد السوفييتي في الحرب الباردة.
يرى ميرشايمر أن الصين، باعتبارها قوة قومية واقتصادية متعاظمة، ستحاول بسط نفوذها الإقليمي في شرق آسيا، وإبعاد القوات الأمريكية عن محيطها الحيوي. وهو يرى أن المواجهة بين البلدين شبه حتمية، خاصة أن الطرفين يتصرفان وفق منطق الهيمنة وتوازن القوى، حيث لا تقبل الولايات المتحدة بوجود ندّ لها في آسيا، ولا تقبل الصين الخضوع لهيمنة أمريكية دائمة.
في هذا السياق، يشير تقرير لمؤسسة بيل وميليندا غيتس إلى أن أكثر من 75% من حالات انتقال الهيمنة في التاريخ أدّت إلى صراعات عنيفة. وعلى سبيل المثال، شهد العالم في القرن العشرين صراعًا كبيرًا بين ألمانيا وبريطانيا، أدى إلى حربين عالميتين. وبالمثل، فإن صعود الولايات المتحدة كقوة عظمى بعد الحرب العالمية الثانية جاء بعد صراع شامل مع دول المحور.
لكن ليس كل انتقال في الهيمنة يؤدي بالضرورة إلى حرب. يشير بعض الأكاديميين، مثل غراهام أليسون، إلى حالات انتقال سلمي، مثل تراجع بريطانيا أمام صعود الولايات المتحدة في القرن التاسع عشر. ومع ذلك، يؤكد أن هذه الحالات نادرة، وتستدعي وجود مؤسسات دولية قوية، وتفاهمات استراتيجية بين القوى الكبرى.
اليوم، تشهد العلاقات الأمريكية - الصينية توترًا متزايدًا، يتمثل في صراع تجاري وتكنولوجي وعسكري. فقد فرضت الولايات المتحدة قيودًا على تصدير رقائق الحوسبة المتقدمة إلى الصين، ووسعت نطاق التحالفات في المحيطين الهادئ والهندي، عبر اتفاقيات مثل "أوكوس" وتحالف "كواد"، بهدف كبح النفوذ الصيني. من جهتها، تواصل الصين تعزيز قدراتها العسكرية، وتبني مشاريع استراتيجية كبرى مثل "مبادرة الحزام والطريق" لتوسيع نفوذها الاقتصادي والدبلوماسي.
shutterstock
يشير ميرشايمر إلى أن الصراع مع الصين لا يتعلق فقط بالتجارة أو التكنولوجيا، بل بمسألة من يضع القواعد للنظام الدولي. ويرى أن الصين تسعى لإقامة نظام إقليمي في آسيا تُهيمن عليه، وتطمح لاحقًا إلى توسيع هذا النموذج عالميًا. هذا الطموح يتعارض جوهريًا مع التوجه الأمريكي القائم على الحفاظ على النظام الليبرالي العالمي الذي تأسس بعد الحرب العالمية الثانية.
ويؤكد المفكر باري بوزن، من مدرسة الواقعية الدفاعية، أن توازن القوى قد يردع الحرب إذا أدارت القوى الكبرى علاقاتها بحذر. لكن في المقابل، يشير إلى أن سوء الفهم والتهديدات الأمنية المتبادلة قد تؤدي إلى تصعيد غير مقصود، وهو ما نراه في التوترات المتزايدة حول تايوان وبحر الصين الجنوبي.
هل يكفي التبادل الاقتصادي لدرء خطر الحرب؟
من جهة أخرى، يذهب بعض الليبراليين إلى أن العولمة والاعتماد الاقتصادي المتبادل بين الدول قد يقللان من فرص اندلاع حرب شاملة. فالصين والولايات المتحدة ترتبطان بسلاسل إمداد عابرة للحدود، وتمتلكان مصالح اقتصادية ضخمة مشتركة. رغم ذلك، يشير الواقع إلى أن هذه المصالح لم تمنع نشوب توترات، بل ربما تزيد من تعقيداتها، حيث تتخذ أشكالًا غير تقليدية كالحروب السيبرانية والحروب الاقتصادية.
ويتراجع هذا الادعاء بشكل متزايد في أيامنا هذه، خاصة في ظل إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن مجموعة من الضرائب الجمركية الحمائية التي تستهدف الصين بالأساس، وهو أمر قد يزيد من منسوب التوترات بين القوتين العظميين، ويجعل موديل المصالح الاقتصادية المشتركة المذكور أعلاه غير قادر عمليًا على كبح التدهور نحو المواجهة.
shutterstock
في ضوء ذلك، تبدو فرضية "فخ ثيوسيديدس" أكثر واقعية مما يُراد الاعتراف به. وإذا لم تبذل القوى العظمى جهودًا حقيقية لبناء توازنات أمنية مستدامة، وتعزيز آليات الحوار، فقد يتحول التنافس إلى صراع مفتوح، لا سيما في مناطق التماس مثل بحر الصين الجنوبي أو تايوان.
الخلاصة
في النهاية، يظهر أن مصير الهيمنة الدولية لا يُحسم فقط بالاقتصاد أو القدرات العسكرية، بل بقدرة الدول الكبرى على إدارة التنافس بعقلانية. وبينما يشكك بعض المفكرين في حتمية الصدام، نرى أنّ التاريخ يُحذرنا من تكرار الأخطاء. فهل يتعلم قادة اليوم من دروس الأمس؟ أم أن البشرية على موعد جديد مع مأساة من مآسي القوى العظمى؟