بعدما قامت جهة لم أعد أعرف تسميتها، بإلغاء مسيرة العودة، اجتاحت المجتمع العربي الفلسطيني في إسرائيل موجة غضب شديدة، وانقسمت الآراء بين معارض ومؤيّد، فثمّة من أراد للمسيرة أن تُقام بكلّ ثمن، وآخرون رأوا بإلغائها درعا واقيا مما يمكن لإسرائيل أن تفعله ضدّ مواطنيها العرب خاصّة بعد الانتهاكات العلنيّة لكلّ حقوق الإنسان غير اليهوديّ، انتهاكات تتلخّص بمقولة واحدة واضحة وصريحة "لا تكُن فلسطينيا".
السابع من أكتوبر، محطة مفصليّة
استطاعت اسرائيل بعد السابع من أكتوبر أن تعلّق فاشيّتها عليه وعلى ما حدث فيه، وأن تقمع المواطن الفلسطيني تماما. فقامت باعتقالات "عن جنب وطرف" بتهم مفتعَلة على الأغلب، ونجحت في إسكات كلّ من يفتح فمه ويطالب بوقف الحرب على غزّة.
كما سنّت قوانين عنصرية خاصّة بالعرب من تضييق على المعلمين ومن ترهيب السوشيال ميديا. فزرعت في المدارس قنابل بشرية تنفجر في وجه كلّ من يتحدث في الأمور السياسية من المعلّمين، واعتقلت كلّ من أبدى رفضه لقتل الأبرياء في غزّة وللإبادة الجماعية التي تُمارَس على مرأى من العالم وعلى مسمعه.
كذلك قمعت النشاطات الفنيّة والثقافيّة وضيّقت الخناق على الفنّانين والعاملين في الحقل الثقافي من مؤسّسات ومسارح وجمعيّات، الأمر الذي أدّى بقسم منهم إلى ترك البلاد أو السباحة على الشاطئ بعدما كانت الثقافة والفن يبحشان في عمق الحياة ويُقلقان ركودَها. إضافة إلى التضييق على المسارح العربيّة وإغلاق مسرح خشبة بعد وضع شروط اقتصاديّة تعجيزيّة تحول دون استمراريّته.
أما في الشارع العام، فقد تألّقت إسرائيل في إشغال الناس بالأمان الفرديّ بعدما مكّنت عائلات الإجرام من رقاب الناس، ما أدى إلى الانصراف شبه الكلّي عن القضيّة الوطنيّة التي في جوهرها إنهاء الاحتلال والمساواة والاعتراف بحقّ الشعب الفلسطيني على أرضه.
فأصبح شغل الناس الشاغل هو كيفيّة الاحتماء من رصاصة طائشة أو من عصابات الإجرام وجماعات الخاوة، بينما تقوم هي، إسرائيل، بتنفيذ مخطّطها العنصريّ ضدّ الفلسطينيّين من أجل "حلم إسرائيل الكبرى".
انتحار الديمقراطية.. أو اغتيالها!
حين وصل الأمر إلى ذكرى النكبة، ومسيرة العودة، قرّرت جمعية الدفاع عن حقوق المهجّرين إلغاءَ مسيرة العودة للعام 2025 بعدما رفضت إسرائيل المصادقة على إقامتها لحججٍ واهية لا تعني إلّا انتحار الديمقراطيّة، أو ربّما اغتيالها.
مسيرة العودة هي الحدث الجامع الأخير الذي لا زال يجمع الشعب الفلسطيني في الداخل ويحشده ويؤكّد على وحدة حاله مهما انقسمت الآراء السياسية فيه. إلغاؤها يهدّد "لاعب السيرك الوحيد" بالسقوط. فإذا سقط، هل سيرفع رأسه مجدّدا وهل ستقام مسيرة العودة في العام المقبل؟ أم أن "الرضوخ" هذا العام يعني رضوخًا أيضا في العام المقبل وكلّ عام قادم؟
في ظلّ الجنون الذي تمارسه الشرطة اليوم، لا أعتقد بأن أحدا منّا يوافق على أن يشاركَ ابنه أو ابنته في مسيرة مزروعة بألغام المجهول والعشوائية. خروج مسيرة العودة رغما عن أنف إسرائيل ما هو إلا وقوفٌ أمام مجرم يحمل مسدّسا تناول حبّة إكستازي، يبعد عن جبهاتنا مسافة صفر، والكفّ لا تستطيع أن تجابه مخرزا مهما كانت طاهرة، فالمخرز شرّه في اسمه.
هذا المنع كان بمثابة صفعة على وجوه الفلسطينيين في الداخل، حيث وضعهم أمام المرآة عراةً تماما هذه المرّة.
أمّا قرار الإلغاء فقد كان حكمةً لا بدّ منها. يصعب عليّ أن أقيّم الصواب والخطأ وليس من حقّي، لكن في شريعة النسبية، الحكمةُ أولى وأجدى من الصدق أمام جنون هذا العالم وأمام فاشيّة إسرائيل.
فرصة تاريخية للجماهير العربية!
هي فرصة تاريخيّة للجماهير العربيّة أن تقرّر، هل يريدون مسيرة عودة في السنة القادمة؟ إذن عليهم الآن أن يعودوا إلى خطّ الدفاع، وأن يعيدوا تنظيمهم السياسيّ والمجتمعيّ من جديد بشكل يأخذ بالحسبان كلّ المستجدّات السياسيّة في فلسطين وفي العالم، فالشأن الداخلي في فلسطين لا
يمكن أن ينفصل عمّا يحدث خارجها. وحين أقول إعادة تنظيم وهيكَلة للمجتمع أعني زفّ العواطف إلى غير رجعة، واتّخاذ خطوات صارمة يحكمها العقل في تحييد شخصيّات أو جهات ساهمت في توسيع الصدع بين أبناء الشعب الواحد من أجل مصالحهم الشخصية أو الحزبية. والعمل جدّيًا لإعادة الحالة الشعبية للفلسطينيين في الداخل الفلسطيني.
والقصد في ذلك، أن يعودوا ليكونوا شعبا، أن يتصرفوا كشعب واحد وأن يختلفوا كما يختلف الأشقّاء في البيت الواحد. هذا الأمر لا يتحقّق بالكلام ولا يمكن أن ينجح من داخل المؤسّسة الرسميّة التي لم تعد تُخفي نواياها في محو كلّ ما هو فلسطيني، بل بالعمل، والعمل من الخارج. بمعنى أنّ الطغيان الحاصل اليوم لا يمكن أن يجابَه إلا من الخارج من خلال جهات مستقلّة ومبادرات فرديّة تغرس في الأطفال، أوّلا، الرواية الفلسطينية وتكرّرها على مسامعهم كلّ يوم.
وهل يهدف قمع مسيرة العودة إلّا لأن ينسى الصغار!
هنا أستثني بوضوح السلطات المحليّة والمدارس. حيث أصبحت السلطات المحليّة عبارة عن شركات تجاريّة تشتري الرخيص وتبيع المضروب. أما المدارس فللأسف، أصبحت أرضا خصبة لاغتيال وعي الأجيال جيلا بعد جيل. بل هي المكان الذي أعدّته اسرائيل بعناية على مدار سنوات طويلة ليكون مبعوثَها المخلِص الذي لا يحيد عن روايتها. يقبل المناهج ولا يهمّه النهج. وفي أحسن حال، تقوم المدارس بالانفصال تماما عمّا يحدث حولها وهذا يكفي لتغييب الطلاب عن واقعهم وتحويلهم إلى متفرّجين في قاعة سينما.
دوام الحال من المحال
على العرب الفلسطينيين في إسرائيل أن يعقّموا الجرح وينظّفوه من القيح قبل أن يطالبوا بشفائه، ولأنّك لا تستطيع أن تنظّف جرحك وأنت تسبح في بركة دم، عليك أن تخرج منها أوّلا. ولدى الفلسطينيين في إسرائيل فرصة ذهبيّة للعمل من خارج بركة الدم هذه، بعدما أعطتهم إسرائيل كلّ الأسباب لذلك ومنحتهم دون أن تقصد، مقولة قويّة أمام العالم الذي لا زالت شعوبه تساند الحقّ.
غابت مسيرة العودة هذا العام وقد تغيب لأعوام قادمة، هذا متوقّع وليس خطيرا. الخطر الحقيقي يكمن في غيابها عندما تهدأ نوبة الجنون التي مسّت العالم. ألم يحكِ لنا آباؤنا وأجدادُنا عمّا عاشوه عام النكبة وأيّام الحكم العسكري! حينها لم يصدّق أحد منهم بأن الفلسطيني سيرفع علم فلسطين يوما ما، لكنّه رُفع. وها نحن أمام السيناريو ذاته، يُمنع رفعُ العلم، تُمنع الكوفية، تُمنَع المظاهرات والمسيرات وكما قال أحمد فؤاد نجم
- ممنوع من السفر
- ممنوع من الغنا
- ممنوع من الكلام
- ممنوع من الاشتياق
- ممنوع من الاستياء
لكن دوام الحال من المُحال. هذا الطغيان ستوقفه السماء إن عجزَ البشر وهذا الظلم لن يدوم، فهل نحن جاهزون لِما بعده!
لنترك كلّ شيء ولنحرُس ذاكرة أطفالنا بتكتيك وبِصَمْت، ولنحكِ لهم كما حكى لنا آباؤنا وأجدادنا، ليتذكّروا كما تذكّرنا نحن.