من حصان طروادة إلى أحصنة السيبرانية: تغيّرت الأدوات وثبتت الفكرة

shutterstock

shutterstock

 هل فعلاً تغير العدو؟ أم تغيّر شكله فقط؟

في زمن تُقدَّم فيه التكنولوجيا بوصفها ذروة الإنجاز البشري، تغيب عن الأذهان حقيقة مزعجة: أن الكثير من "الابتكارات" المعاصرة ما هي إلا تحديث ذكي لخدع قديمة. تتغير الوسائل، لكن تظل الفكرة ذاتها: اختراق الخصم دون أن يشعر، عبر التسلل إلى داخله، لا عبر مهاجمته من الخارج. الخداع المقنّع، الذي سقطت به طروادة، يعود اليوم في هيئة رموز، وتطبيقات، وخطابات، ومنشورات.


قصة حصان طروادة: حين فتحت المدينة أبوابها بيدها


تعود بنا الأسطورة الإغريقية إلى مدينة طروادة المحصّنة، التي استعصت على جيوش الإغريق لعشر سنوات متواصلة من الحصار. كل محاولات الاقتحام فشلت، حتى جاء أوديسيوس بحيلة عبقرية: تمثال خشبي ضخم على هيئة حصان، مجوّف من الداخل ليُخفي نخبة من الجنود، بينما يوهم الجيش الإغريقي خصمه بالانسحاب الكامل.


shutterstock

تَسلَّم الطرواديون الحصان باعتباره هدية سلام، بل انتصارًا. أدخلوه إلى قلب المدينة، أقاموا الاحتفالات، وناموا في سُكر الغرور. وفي جنح الظلام، خرج الجنود من جوف الحصان، وفتحوا الأبواب لبقية الجيش المختبئ في الغابة. سقطت طروادة، لا بالسيوف، بل بالخداع.


الأسطورة لم تمت. فقط استبدلت الأخشاب بالكود، والسيوف بالخوارزميات.



الأمن السيبراني وحصان طروادة الرقمي


اليوم، بات اسم "Trojan Horse" مصطلحًا تقنيًا متداولًا في عالم الأمن السيبراني. هو برنامج خبيث يُقدَّم في هيئة شرعية - تطبيق مجاني، رابط جذاب، ملف PDF أو حتى لعبة - لكنه يفتح الباب للمهاجمين. ليس هذا فحسب، بل يُمكنه أن يفتح "أبوابًا خلفية" في النظام، يراقب، ويُسجّل، وينسخ، ويقود إلى تدمير كامل دون إطلاق رصاصة واحدة.


إنها الحرب الصامتة، والأخطر أنها لا تُخاض على جبهات مكشوفة، بل داخل كل جهاز، وفي كل بيت، وأحيانًا، في كل عقل.


المجتمع العربي: الساحة المفتوحة للاختراق السيبراني والثقافي


السؤال الأخطر: لماذا نُخترق بهذه السهولة؟


الإجابة تكمن في هشاشة الداخل، لا براعة الخارج فقط. في معظم المجتمعات العربية، تتفكك منظومات الحصانة الاجتماعية والمعرفية: ضعف الثقافة الرقمية، وهشاشة التعليم، وانعدام الثقة، وتسييس الهوية. كل ذلك يجعل اختراق الوعي العام أمرًا سهلًا، بل متوقّعًا.

العنف في الداخل الفلسطيني: حين يُصبح الرصاص حصان طروادة


في الداخل العربي الفلسطيني (عرب 48)، يظهر وجه آخر من الحصان، أكثر قسوة وألمًا. الجريمة والعنف في البلدات العربية لم تنشأ من فراغ، بل تُدار في كثير من الأحيان كأداة تفكيك منظم. حين تُغضّ الدولة الطرف عن انتشار السلاح، وتُترك شبكات الإجرام لتنهش في جسد المجتمع، تكون النتيجة تآكلًا في الثقة الداخلية، وانشغالًا بمعارك يومية تستنزف الطاقات وتُشتت الأولويات.



إن "حصان طروادة" هنا ليس تطبيقًا إلكترونيًا، بل بنية اجتماعية مفخخة: مدارس ضعيفة، وشرطة غائبة، وإعلام تافه، وسلاح منتشر. والنتيجة: يُفتح الباب لتسلل التطبيع السياسي، والتخلي عن المشروع الوطني، دون أن يشعر أحد.


سورية: الطائفية كحصان طروادة إقليمي


في المشهد السوري، تجسّدت الحيلة بشكل دموي. الطائفية، التي تم تسويقها بخطاب ديني وإعلامي مؤدلج، دخلت كسردية "حماية الأقليات" أو "مظلومية الأكثرية". فبدأ الانقسام، لا على أساس برامج، بل على أسس هوية. تفككت سورية إلى كانتونات مذهبية، كلٌّ منها بات يرتبط بقوة إقليمية.


هنا لم يكن الحصان خشبيًا ولا رقميًا، بل خطابًا وجد بيئة خصبة بسبب الغياب الكامل لمشروع وطني موحِّد، وانهيار الثقة بين مكوّنات الشعب.


حرب ناعمة، أدواتها شبكات ومؤثرون وهاشتاغات


في القرن الحادي والعشرين، لم تعد السيطرة تتطلب جنودًا أو طائرات. منصّة واحدة، ومؤثر واحد، وحملة مموّلة كفيلة بتغيير اتجاهات جمهور بأكمله.

الخوارزميات تُحدّد من ترى، وماذا تقرأ، وبماذا تشعر. يتم إعادة استهدافك بناءً على مزاجك، وميولك، وحتى لحظات ضعفك. وهذا هو الاختراق الأكثر خطورة: أن تتحوّل من مقاوم إلى متلقٍّ دون أن تشعر.


بناء المناعة الرقمية والثقافية: الحل الوحيد لمواجهة الاختراق


الأمن القومي لا يُبنى بجدار، بل بوعي.


مطلوب إعادة تعريف لمفاهيم الأمن لتشمل:


  • الأمن السيبراني: قدرة على صد الهجمات الرقمية.
  • الأمن الثقافي: خطاب وطني جامع يمنع التفتت.
  • الأمن الإعلامي: مؤسسات قادرة على التصدي للدعاية المضادة.
  • الأمن المعرفي: تعليم ناقد، يشكك في ما يُعرض عليه، ويقرأ ما بين السطور.

السؤال الأهم: كم من حصان طروادة نُدخل إلى عقولنا يوميًا؟


في كل مرة نشارك فيها منشورًا عنيفًا أو طائفيًا، أو نحمّل تطبيقًا دون مراجعة، أو نتبنى رأيًا مُعادٍ لذاتنا الجمعية، فإننا - دون وعي - نعيد تمثيل مشهد طروادة، نلعب نحن فيه دور أهل طروادة الذين ناموا سكارى بنشوة الانتصار الزائف.

المخترِق لا يحتاج إلى قوة ساحقة؛ يحتاج فقط إلى قابليتنا للسقوط.

يتم الاستخدام المواد وفقًا للمادة 27 أ من قانون حقوق التأليف والنشر 2007، وإن كنت تعتقد أنه تم انتهاك حقك، بصفتك مالكًا لهذه الحقوق في المواد التي تظهر على الموقع، فيمكنك التواصل معنا عبر البريد الإلكتروني على العنوان التالي: info@ashams.com والطلب بالتوقف عن استخدام المواد، مع ذكر اسمك الكامل ورقم هاتفك وإرفاق تصوير للشاشة ورابط للصفحة ذات الصلة على موقع الشمس. وشكرًا!

phone Icon

احصل على تطبيق اذاعة الشمس وكن على
إطلاع دائم بالأخبار أولاً بأول

Download on the App Store Get it on Google Play