قد لا يكون الألم المزمن دائمًا ناتجًا عن إصابة جسدية أو مرض عضوي معروف. ففي كثير من الحالات، يتحوّل إلى عبء يومي يؤثر على نفسية المريض، يغيّر من علاقاته ونمط حياته، وقد يقوده نحو اضطرابات مثل القلق، الأرق، وحتى الاكتئاب.
ورغم أن بعض أنواع الألم ترتبط بمشكلات طبية يمكن تشخيصها، إلا أن ملايين الأشخاص حول العالم يعانون من آلام مزمنة لا تفسّرها أي فحوصات أو تحاليل تقليدية.
هذه الحالة الغامضة دفعت الباحثين إلى الغوص أعمق في فهم ما يُعرف بـ "ألم اللدونة العصبية" (Neuroplastic Pain).
الدماغ يعيد برمجة نفسه بشكل خاطئ
في هذا النوع من الألم، لا يكون الخلل في الأنسجة أو الأعضاء، بل في الطريقة التي يتعامل بها الدماغ مع إشارات الألم.
الدماغ، بقدرته المذهلة على إعادة تشكيل مساراته العصبية، قد يعيد تنظيمها بشكل خاطئ، ليُصبح مفرط الحساسية تجاه مؤثرات غير مؤلمة أساسًا.
الإشارات العادية تتحوّل إلى ألم!
يشرح الدكتور ديفيد كلارك، رئيس جمعية علاج أعراض اللدونة العصبية، أن الجهاز العصبي قد يفسّر اللمسات الخفيفة أو الحركات البسيطة على أنها تهديدات تستوجب الشعور بالألم.
وغالبًا ما يصاحب هذا الألم إرهاق مزمن، صداع متكرر، واضطرابات في الجهاز الهضمي.
غياب السبب العضوي.. أولى العلامات
من أبرز مؤشرات هذا النوع من الألم هو عدم وجود سبب جسدي واضح.
فعلى الرغم من كثرة الفحوصات وتنوّع العلاجات، تبقى النتائج طبيعية. وهو ما يجعل المسكنات أو الجراحات بلا فائدة تُذكر في هذه الحالات.
تنقّل الألم وارتباطه بالعواطف
علامة أخرى محيّرة هي تنقّل الألم بين مناطق مختلفة في الجسم دون تفسير واضح، مما يعقّد مهمة الأطباء.
كما أن الأعراض تميل إلى التفاقم عند التعرض لضغوط نفسية، مما يشير إلى وجود علاقة مباشرة بين الحالة العاطفية واستجابة الجهاز العصبي.
جراح الطفولة قد تترك أثرًا طويل الأمد
تشير الأبحاث إلى أن التجارب النفسية المؤلمة، خصوصًا في الطفولة مثل الإهمال أو العنف الأسري، تترك بصمة دائمة في الدماغ، وتزيد من احتمالية تطور آلام مزمنة يصعب تفسيرها عضويًا.
حتى ذكريات الماضي أو مواقف مشابهة قد تثير استجابات عصبية مؤلمة.
أمل جديد.. بإعادة تدريب الدماغ
رغم تعقيد هذه الحالة، فإن الأمل لا يزال ممكنًا. فقد أثبتت طرق العلاج الحديثة التي تُعرف بـ "إعادة تدريب الدماغ" فعاليتها.
وتشمل هذه الأساليب:
تمارين الوعي الجسدي
التعرض التدريجي للمحفزات
تقنيات السيطرة على التوتر والقلق
نتائج واعدة تتجاوز الأدوية
يؤكد الدكتور كلارك أن هذه الأساليب النفسية والسلوكية تفوقت على العلاجات الدوائية التقليدية في حالات مثل:
الألم العضلي الليفي
متلازمة القولون العصبي
الصداع النصفي
كوفيد طويل الأمد
فهم الألم.. هو أول خطوة للشفاء
كلما زادت معرفة المريض بطبيعة ألمه وكيفية استجابة دماغه له، زادت فرص تعافيه واستعادة جودة حياته.
فالفهم هو المفتاح الأول في رحلة التحرر من ألم مزمن طالما ظلّ لغزًا محيّرًا.
طالع أيضًا