4.5 تريليون دولار تغيّر معادلة الاقتصاد الصيني: بين التحوّل المالي والتحديات البنيوية

shutterstock

shutterstock

خلال الأشهر السبعة الأولى من عام 2025، استقطبت الصين تدفقات مالية بقيمة تقارب 4.5 تريليون دولار إلى أسواقها من أسهم وسندات وأدوات مالية أخرى. هذا الرقم لا يُعد مجرد إنجاز رقمي، بل يمثل لحظة فارقة في مسيرة الاقتصاد الصيني، حيث يكاد حجم هذه التدفقات يوازي ـ بل يتجاوز ـ قيمة التجارة الخارجية للبلاد في الفترة ذاتها. بهذا المعنى، تدخل الصين مرحلة جديدة قد تغيّر موقعها في النظام الاقتصادي العالمي: من "مصنع العالم" إلى قوة مالية عابرة للحدود.




جذور التحوّل: من اقتصاد الإنتاج إلى اقتصاد المال


على مدى العقود الثلاثة الماضية، ارتكز النمو الصيني على نموذج الإنتاج والتصدير: مصانع ضخمة، عمالة رخيصة، وبنية تحتية صناعية هائلة جعلت من بكين أكبر شريك تجاري لمعظم دول العالم. إلا أنّ هذا النموذج يواجه اليوم حدودًا واضحة: تراجع الطلب العالمي، التوترات التجارية مع الولايات المتحدة وأوروبا، وارتفاع تكاليف الإنتاج داخليًا.



أمام هذه التحديات، تسعى الصين منذ سنوات إلى بناء اقتصاد أكثر توازنًا، يعتمد ليس فقط على السلع والخدمات، بل أيضًا على سوق مالي قادر على جذب الاستثمارات وتوليد الثروة داخليًا. وفي هذا السياق، فإن التدفقات الأخيرة ليست مجرد موجة عابرة، بل نتيجة سياسات واعية هدفت إلى تعزيز الانفتاح المالي، مثل تطوير برامج Stock Connect وBond Connect التي تتيح للمستثمرين الأجانب الوصول المباشر إلى الأسواق الصينية عبر هونغ كونغ.





الفرص: صعود مالي يفتح آفاقًا عالمية


تدفقات بهذا الحجم تعني أنّ الصين باتت أكثر جاذبية للمستثمرين الدوليين الباحثين عن بدائل في ظل تقلب الأسواق الغربية. فبينما تواصل البنوك المركزية في الولايات المتحدة وأوروبا تغيير أسعار الفائدة بشكل متكرر، يوفر السوق الصيني عوائد تنافسية واستقرارًا نسبيًا في أدوات الدين المحلية. كما أن أسهم التكنولوجيا الصينية، التي تستفيد من الدعم الحكومي ومن اتساع السوق الداخلية، أصبحت خيارًا جذابًا للصناديق العالمية.


هذا التحوّل قد يمنح اليوان دفعة إضافية ليصبح عملة احتياطية في المحافظ العالمية، وهو ما تسعى إليه بكين منذ سنوات في إطار تقليص الاعتماد على الدولار. فإذا تحوّلت الصين إلى مركز مالي رئيسي، فإن تأثيرها في حركة رؤوس الأموال العالمية سيكون موازياً ـ وربما أكبر ـ من تأثيرها في تجارة السلع.



التحديات: ديون متراكمة ومخاوف الشفافية


لكن الطريق ليس مفروشًا بالورود. فالصين تواجه مشكلة ديون مزمنة، خصوصًا لدى الحكومات المحلية وشركات التطوير العقاري التي تراكمت عليها التزامات ضخمة خلال سنوات الطفرة العمرانية. أي تعثر في سداد هذه الديون يمكن أن يقوّض ثقة المستثمرين، ويحوّل التدفقات الإيجابية إلى هروب جماعي للأموال.


إلى جانب ذلك، تبقى الشفافية نقطة ضعف جوهرية. إذ يطالب المستثمرون الأجانب بتقارير مالية أكثر وضوحًا، وإفصاحات دقيقة من الشركات، وقواعد تنظيمية أكثر صرامة تحميهم من التدخلات المفاجئة. تجربة الأعوام السابقة، عندما فرضت بكين قيودًا صارمة على شركات التكنولوجيا والتعليم، ما زالت عالقة في ذاكرة الأسواق وتثير الشكوك حول مدى التزام الحكومة بالانفتاح الكامل.



مقارنة دولية: درس من الولايات المتحدة وأوروبا



لفهم ما يحدث في الصين، يجدر النظر إلى تجارب سابقة. فالولايات المتحدة مثلًا انتقلت في القرن العشرين من اقتصاد صناعي إلى اقتصاد مالي يقوده وول ستريت. هذا التحول مكّنها من فرض هيمنتها المالية عالميًا، لكنه أيضًا جعلها أكثر عرضة للأزمات المالية الكبرى مثل أزمة 2008.





أما أوروبا، فقد سعت إلى بناء اتحاد مالي ونقدي يعزز اليورو كقوة موازية للدولار، لكنها واجهت تحديات بسبب التباينات الاقتصادية بين دولها. الصين تقف اليوم في موقع مشابه: لديها الطموح المالي، لكنها تواجه فجوة بين المركز المزدهر (بكين، شنغهاي، شنجن) والأقاليم المثقلة بالديون.



آفاق المستقبل: ثلاثة سيناريوهات:


1. سيناريو الاستمرارية الإيجابية: تواصل الصين إصلاحاتها المالية التدريجية، وتُحسن مستوى الشفافية، مما يعزز ثقة المستثمرين ويجعلها مركزًا ماليًا عالميًا في غضون عقد. في هذا المسار، قد يتحول اليوان إلى ثاني أهم عملة احتياطية بعد الدولار.


2. سيناريو التعثر والتشدد: تتفاقم أزمة الديون المحلية أو تحدث أزمة في قطاع العقارات، فتضطر الحكومة إلى التدخل بصرامة وتشديد القيود على حركة رأس المال، ما يؤدي إلى تراجع التدفقات وخسارة ثقة الأسواق.


3. سيناريو التوازن المرن: تستمر الصين في جذب رؤوس الأموال ولكن بشكل متقلب، حيث تبقى الأسواق تحت رحمة القرارات السياسية المفاجئة. هذا السيناريو قد يضمن استقرارًا داخليًا لبكين، لكنه سيحدّ من قدرتها على التحول إلى مركز مالي عالمي حقيقي.



الخلاصة


إن تدفّق 4.5 تريليون دولار في سبعة أشهر ليس مجرد إنجاز عابر، بل إشارة إلى تحوّل استراتيجي قد يغيّر وجه الاقتصاد الصيني. الفرص هائلة: تعميق مكانة اليوان، جذب المستثمرين العالميين، وبناء اقتصاد مالي متكامل. لكن التحديات لا تقل خطورة: ديون ضخمة، ضعف الشفافية، وهيمنة الدولة.


نجاح الصين في هذا المسار سيعتمد على قدرتها على تحقيق توازن دقيق بين الانفتاح والضبط. فإذا استطاعت ترسيخ الثقة وتحويل أسواقها المالية إلى منصة عالمية، فإنها لن تكون فقط "مصنع العالم"، بل أيضًا مصرف العالم. أما إذا غلبت الحسابات السياسية والضغوط الداخلية، فقد يبقى هذا التحوّل مجرد فرصة ضائعة في سجلّ التاريخ الاقتصادي.

يتم الاستخدام المواد وفقًا للمادة 27 أ من قانون حقوق التأليف والنشر 2007، وإن كنت تعتقد أنه تم انتهاك حقك، بصفتك مالكًا لهذه الحقوق في المواد التي تظهر على الموقع، فيمكنك التواصل معنا عبر البريد الإلكتروني على العنوان التالي: info@ashams.com والطلب بالتوقف عن استخدام المواد، مع ذكر اسمك الكامل ورقم هاتفك وإرفاق تصوير للشاشة ورابط للصفحة ذات الصلة على موقع الشمس. وشكرًا!

phone Icon

احصل على تطبيق اذاعة الشمس وكن على
إطلاع دائم بالأخبار أولاً بأول

Download on the App Store Get it on Google Play