في يومٍ خُصّص للاحتفال بحقّ الأطفال في الحماية والكرامة، يجد أطفال الداخل الفلسطيني أنفسهم في واقع يناقض تمامًا روح هذا اليوم، فالطفولة لم تعد مرحلة لعبٍ واكتشاف، بل مرحلة نجاة. والمدرسة لم تعد مساحة آمنة، بل مكانًا يتطلب من الطفل شجاعة كي يعبر بوابته كل صباح.
إنّ مشاهد العنف داخل المدارس لا تظهر كأحداث منفصلة، بل كامتداد مباشر لواقع أكبر وأكثر وجعًا؛ واقع بلغ فيه عدد ضحايا جرائم القتل هذا العام 228 قتيلًا، كثير منهم آباء وأمهات تركوا وراءهم أطفالًا يتعلّمون مبكرًا جدًا معنى الفقدان.
خلف كل رقم، طفل يسأل: "أين أبي؟ لماذا لا يعود؟" وخلف كل جريمة وحادثة بيت يُعاد ترتيبه على صدمة، ومدرسة يثقلها الخوف.
من الطعن إلى الخنق… مشاهد يومية لا تُشبه الطفولة
المدرسة التي كان يُفترض أن تكون الملجأ الأول باتت اليوم ساحة تختبر فيها الطفولة قدرتها على الاحتمال. مشهد واحد كافٍ لتلخيص حجم الانهيار:
طالب يدخل إلى المدرسة في كفر قرع ولا يخرج منها حيًا. طُعن الفتى محمد حسين مرازقة داخل الحرم المدرسي، في لحظة لم يكن فيها أحد يتوقع أن يتحوّل خلاف بين صغار إلى جريمة كاملة.
طفل يسقط أرضًا، وزميل يجرّد السكين من حقيبته، ومدرسة كاملة تقف أمام سؤال لا أحد يعرف كيف يجيب عنه:
كيف وصل السلاح إلى هنا؟ وكيف أصبح الدم جزءًا من مشهد يوم دراسي عادي؟
ولا تمضي أيام طويلة حتى يتكرر المشهد بأشكال أخرى، في أم الفحم، يدخل طالب إلى المستشفى ووجهه مشقوق بشفرة خلال شجار لم يتجاوز دقائق. أمٌّ تفتح الباب فتجد ابنها بنزيف لا يتوقف، ولا تفهم كيف وصلت الشفرة إلى حقيبة طفل.
أما في بيت حنينا، يلتفّ طفل بيديه حول رقبة زميله، يضغط ويواصل الضغط ثم يسقط الطفل المذعور أرضًا فاقدًا للوعي، فيما يقف عشرات الطلاب في حالة ذهول، وكأنهم أمام مشهد رأوه مسبقًا أو اعتادوا عليه.
أما في الناصرة، فتنتهي يوميات طالبة باعتداء عند خروجها من المدرسة، تُنقل إلى بيتها ويبقى “تسوية الموضوع” عنوانًا صغيرًا لا يغيّر شيئًا من حقيقتها: طفلة خرجت من المدرسة وهي ترتجف.
هذه ليست حوادث منفصلة؛ إنها خطّ واحد متواصل يروي قصة جيل يكبر تحت ضغط العنف، ويفقد كل يوم طبقة جديدة من الطفولة.
الحضانات أيضًا لم تعد آمنة
والأصعب أن دائرة العنف لم تعد تقتصر على المدارس وحدها. في قرية الرينة، كشفت لائحة اتهام عن سنوات من الممارسات المسيئة داخل حضانة صغيرة يفترض أن تكون أول مكان يختبر فيه الطفل معنى الأمان.
شهادات حول معاملة قاسية، أساليب إذلال، وإهمال متواصل… تفاصيل تكشف أن حتى السنوات الأولى من حياة الطفل التي يجب أن تُبنى فيها الثقة والطمأنينة لم تعد بمنأى عن التصدّع.
فإذا كان الخوف يلاحق الأطفال في هذه المرحلة المبكرة، فكيف سيكبرون وهم يشعرون أن أقرب الأماكن إليهم ليست آمنة؟
حتى حُرّاس المدارس لم ينجوا من الرصاص
ومشهد العنف امتدّ أيضًا إلى من يفترض أنهم محيط الأمان حول المدرسة، في كفر ياسيف، قُتل حارس مدرسة على باب المدرسة. وفي عين ماهل، أُصيب حارس آخر بجروح خطرة أمام المدرسة التي يتعلم فيها أطفاله. كيف يمكن لطفل أن يشعر بالأمان حين يرى من يحرسه يُسقط برصاص الجريمة؟
228 قتيلًا… ومئات الأطفال الذين يدفعون الثمن
في وسط هذا المشهد المتشظّي، يظهر الجانب الأكثر قسوة، وهو الأطفال الأيتام بسبب جرائم القتل.
"الأيتام الجدد": جرح يتوسع بصمت
هنا تقول د. باقة مواسي، مديرة المجتمع العربي في جمعية "حمنيوت" للأيتام:
"الحديث عن 228 قتيلًا ليس رقمًا عابرًا؛ هو عشرات البيوت التي انكسرت، ومئات الأطفال الذين وجدوا أنفسهم فجأة بلا سند. كل طفل يفقد أحد والديه بسبب الجريمة يعيش صدمة طويلة المدى، تنعكس على تعليمه، وثقته، وصحته النفسية، وشعوره بالأمان."
وتضيف: "نعرف تمامًا أن كل جريمة تترك وراءها أطفالًا يتامى - بعضهم في سن الرضاعة، وبعضهم طلاب مدارس يواجهون أسئلة أكبر من أعمارهم. من دون منظومة دعم حقيقية، فنحن لا نخسر شخصًا واحدًا بكل جريمة، بل نخسر مستقبلاً كاملًا."
طفل يتيم بسبب جريمة، طفل يتعرض للعنف داخل المدرسة، طفل يرى حارس المدرسة يُقتل، طفل يدخل الصف وهو خائف، وآخر يعود إلى البيت بجروح واضحة، وثالث يحمل صمتًا لا يفهمه أحد. جميعهم ضحايا لنفس الدائرة.
يوم الطفل العالمي… سؤال وليس احتفالًا
ويوم الطفل العالمي، بدل أن يكون احتفالًا، يصبح مناسبة للمساءلة: من يحمي هؤلاء الأطفال؟ وكيف سيكبر جيل يتعلم مبكرًا جدًا معنى الخوف والفقدان؟ ومن سيُرمّم ما انكسر في هذه الطفولة؟
ان حماية الأطفال ليست شعارًا، بل شرط لنهضة مجتمع كامل. وحتى يعود لهذا اليوم معناه الحقيقي، يجب أن يُعاد للطفولة حقها الأول: أن تعيش بأمان.