كيف نُغربل المعلومة؟

shutterstock

shutterstock

طالما استعمل الكُتّاب والفلاسفة تعبير "روح العصر" (Zeitgeist)، كمجاز يصِفون به المزاج أو المناخ الفكري العام لحقبة زمنيّة مُعينة ومدى تأثيره عليها. أما اليوم فقد وثب هذا التعبير من عتبة المجاز إلى عتبة الواقع، حيث نعيش في عصرٍ روحه ترفرف حولك بالمعنى الحرفيّ للكلمة، عصر روحه في كل مكان، في الكتب والصحف الورقيّة، وعلى أثير الراديو، والكتب والصحف الرقميّة، وشاشات التلفزيون، ووسائل التواصل، وعلى ال "كلاود" وال "درايف" والبريد الإلكتروني.


 وتنتشر روح العصر لتغوص بالمحيطات عبر أسلاك الإنترنت الضخمة، وتعبر على سطح الأرض من فوق الأعمدة وتشق طريقها في أعماقها، وتحوم في الفضاء عبر أمواج الواي فاي وتصل أخيرًا إلى يدك، فتراها وتسمعها وتتفاعل معها وتكون انت جزءًا فاعلًا بها ومنها.

وذلك كله، بحركةٍ من إبهامك تتنقل بداخلها حيثما تشاء. أو هذا على الأقل ما اعتقدته إلى أن فهمتَ أن الخوارزميات تَدرُس سلوكياتك لتُؤكلك الطُعم، فتصبح أنت المُنتِج والمُنتَج وأنت والزبون في آن.


shutterstock



عصر ما بعد المعلومات يصطدم بعصر ما بعد الحقيقة


إنه لأمرٌ عجيبٌ فعلًا، هذا التصاعد الأسيّ، بكمية المعلومات منذ بداية هذا القرن، كميّة تفوق بعشرات ملايين (وربما مليارات) المرات ما كانت عليه في بداية القرن المُنصرم. وذلك من حيث انتشار المعلومات، حجمها، وكميّتها، والتوفّر (accessibility)، والتخزين، والإنتاج المعرفي (خلق المعلومة).

فلَك أن تتخيّل عزيزي القارئ أن منذ العام 1440-1900ازدادت كمية المعرفة البشريّة مرتين (أي استغرق للبشر 460 عامًا لكي يضاعفوا كمية المعرفة لديهم) ومنذ بداية القرن المُنصرم حتى منتصفه ازدادت المعرفة البشريّة مرتين ( استغرقت 50 عاًما لكي تتضاعف)، أما منذ العام 2018 وصاعدًا (وهو العام الفاصل بين عصر المعلومات وعصر ما بعد المعلومات) فتتوقع شركة "أي بي أم" أن كميّة المعرفة الإنسانيّة قد تتضاعف كل 12 ساعة!


لا يمكن للعقل البشري أن يستوعب هذا الرقم الهائل أصلًا، فكيف لنا أن نتعامل معه إذًا؟


الحقبة هذه منذ منتصف العقد الثاني من هذا القرن يطلق عليها حقبة ما بعد المعلومات، وهذا هو العصر الذي يلي "عصر المعلومات" (الثورة الصناعية الثالثة)، ويتميز بوفرة المعلومات الفائقة وينشغل بكيفيّة تخصيصها وتوظيفها، مع زيادة أهمية تمييز الجودة والمصداقيّة وتعزيز التفكير النقدي والخبرة.

كما يتميز أيضًا بالتحوّل نحو التجارب الشخصيّة والابتعاد عن القيود الجغرافيّة من خلال التفاعل الرقمي وإنترنت الأشياء. لكن مهلًا، فلهذا السيف حدّان، فعلى الضفة المقابلة لهذا النهر الجارف نرى كذلك عصر ما بعد الحقيقة، حيث نشهد بالموازاة مناخًا ثقافيًا وسياسيًا تكون فيه الحقائق الموضوعيّة أقل تأثيرًا في تشكيل الرأي العام من المناشدات العاطفية والمعتقدات الشخصيّة. ويتسم بانتشار المعلومات المُضللة (disinformation)،


shutterstock


وتراجع الثقة في المؤسسات التقليديّة مثل وسائل الإعلام والخبراء، وتزايد تقبّل الروايات التي تتماشى مع التحيّزات الفرديّة أو الجماعيّة، بالإضافة إلى تآكل الثقة في الخبراء وانهيار مكانة المعرفة المُنظّمة/المُمنهجة في المجال العام واحتضار مبدأ التمييز بين الرأي والمعلومة وبين الخبرة والانطباع.

حيث يسهم الإعلام الترفيهي في خلق بيئة تُمجّد المشاركة في ذاتها على حساب رجاحة، موضوعية، وعلميّة الطرح. وبالنتيجة باتت هذه البيئة تُسوّي بين الخبير والجاهل وتحمي الجهل وتروّج له بحجة "حرية التعبير". ما ولّد نظامًا من المعرفة الباطلة المُتظاهرِة، يضع المعلومة المدروسة والدقيقة على قدم المساواة مع نظرية المؤامرة والعلم الزائف.

كيف لي إذًا أن أعلم في أي عصرٍ أحيا؟


كيف أعلم أن ما أنظر إليه، أسمعه أو أقرأه معلومة حقيقيّة أم مُفبركة، وكيف لي أن أثق أن فلانًا خبير بالفعل بما يتحدث، وكيف لي أن أميّز بين العلم والعلم الزائف، وكيف لي أن اتحقق من مصداقيّة وموضوعيّة ما أقرأه وأسمعه وأشاهده؟


لا أعلم إن كانت هنالك طريقة للتحقق من التساؤلات أعلاه بالمطلق، لكني سأعرض هنا ثلاث أدوات تفكير قد تساعدني، إذا استخدمتها بمنهجيّة مُتّسقة وثابته، على تقليص الوقوع بين براثن العلم الزائف والمعلومات المُضللة، وبالتالي تحييد المعرفة الباطلة قدر المستطاع:


1. وسائل الإقناع:


الإيثوس، والباثوس، واللوجوس هي ثلاثة أساليب إقناعيّه تُستخدم في البلاغة (فن الإقناع، هذا التقسيم قام به أرسطو ولا يزال ذو صلة حتى يومنا هذا).


الإيثوس (مصداقية المتحدث أو جاذبية المتحدث): يُركّز الإيثوس على بناء الثقة مع الجمهور من خلال إظهار خبرة المتحدث، وشخصيته، وموثوقيته.

يمكن للمتحدث أن يؤسس الإيثوس ويعزز حججه بالإقناع بذكر خبرته ذات الصلة، ومؤهلاته، أو من خلال إظهار شخصية أخلاقية قوية. أي على أنه مؤهل للحديث أو حتى "الإفتاء" في موضوع ما، وقد يكون ذلك بمناشدة خبراته أو ارتباطه بالموضوع بشكل أو بآخر، أو لمكانته المرموقة في المجال، كشهادته الأكاديميّة، او سمعته الاجتماعية، رتبته في مؤسسة تجارية أو تموضعه في مناصب سياسية رفيعة.


الباثوس (العاطفة): يستهدف الباثوس استثارة مشاعر الجمهور لإقناعهم. يمكن أن يشمل ذلك استخدام قصص مؤثرة، لغة عاطفية، أو استدعاء قيم الجمهور ومعتقداتهم لجعل الحجة أكثر تأثيرًا. وهذا قد يكون عن طريق تصوير مشهد مشرق للمستقبل، أو على عكس ذلك رسم سيناريوهات تثير الذعر في نفس المُتلقي، أو عن طريق استجداء الجمهور، أو مناشدة آماله وتطلعاته، وعادة ما يكون هذا النوع من الخطابات كثير المجاز والاستعارة ومتمحمّس وممزوج بلغة جسد مفرطة بالتعبير.


اللوجوس (المنطق): يعتمد اللوجوس على استخدام المنطق والسببية لدعم الحجة. يتضمن ذلك تقديم أدلة، حقائق، إحصائيات، أرقام أو حجج عقلانية لإقناع الجمهور بصحة الموقف مدعومة ببراهين وبيّنات. لكن بعصرنا هذا، لا يتوقّف اعتمادي كمتلقي على اللوجوس عند هذا الحد فقط، إذ أن البيانات، الأرقام والإحصائيات يمكن أن تكون غير دقيقة أو مزيّفة، وقد يكون الخطيب ذو قدرة عالية على المراوغة، حيث يُلبس خطابه عبائة المنطق ويحشوه بالمصطلحات العلميّة والرسوم البيانيّة ليبدو مثيرًا للإعجاب وذو مصداقية، لكنه بالواقع أجوف ويتلخّص ببهرجة "علميّة" زائفة، ولهذا السبب عليّ التحقق من مصداقية المصادر وموثوقيتها، وذلك عن طريق:

  • التحقق من هوية الكاتب / المصدر / صاحب البودكاست أو ضيوفه، خبرتهم بالمجال، مؤهلاتهم العلميّة، مناصبهم، وهل الحديث عن مؤسسات معترف بها أم لا.


  • الشفافية: هل يذكر الكاتب اسمه الكامل وطرق البحث التي يستخدمها، هل تظهر معلومات الاتصال للموقع (بريد إلكتروني / هاتف) المصادر المجهولة أو التي تستخدم أسماء مستعارة غالبًا ما تكون أقل مصداقية.


  • تقييم جودة الموقع/المنصة، النطاق Domain الذي تنطلق منه المواقع مثل gov للجهات الحكومية، للجامعات edu عادة ما تكون هذه المواقع أكثر مصداقية من المواقع التجارية (net /com أو المدونات) الشخصية.


  • التقييم: ابحث عن تقييمات أو آراء عن الموقع من مصادر خارجيّة (مثل مراجعات على منصات مهنية/أكاديميّة).


  • الحتلنة: المعلومات القديمة قد تكون غير دقيقة، خاصة في المجالات سريعة التطور (مثل الطب/علوم الحاسوب، والتكنولوجيا عمومًا). المواقع التي تُحدَّث بانتظام تعكس اهتمامًا ومسؤوليّة بدقة وصلاحيّة المعلومات.


  • الدلائل والمراجع: المعلومات الموثوقة تُشير عادةً إلى دراسات أو تقارير أو مصادر أوليّة. (المصادر الأوليّة هي المصادر التي تقدّم معلومات أو شهادة مباشرة على الحدث، مثل نتائج التجارب أو الأبحاث الأكاديميّة المنشورة من مصدر بحثها الأصلي، الوثائق والبيانات الرسميّة من سجلات حكوميّة أو منظّمات رسميّة، مقابلات مباشرة أو شهادات شخصية -هنا وجب تقييم شامل لسياق الحدث أو المقابلة- أما المصادر الثانوية فهي المصادر التي تعتمد على المصادر الأوليّة بنشر وتفسير المعلومات، كالكتب التي تعتمد على مراجع أخرى، المقالات التفسيريّة والتحليليّة كمقالات الرأي والمدونات الشخصيّة، التقارير الإخباريّة أو الوثائقيات التي عادة ما تعتمد على مصادر خارجيّة مختلفة).


  •  المقارنة بين مصادر مختلفة ومراجعة مواقع تقصي الحقائق: إذا تكررت المعلومة في مصادر مختلفة (خاصةً من مصدر متنوعة التوجهات) فذلك قد يعزز مصداقيتها، وبإمكاننا أيضا زيارة مواقع مثل Snopes و Politifact لتتحقق من صحة الأخبار والادعاءات المثيرة للجدل.


shutterstock


هنالك من يضيف وسيلة رابعة للإقناع، لكنها لا تزال بموضع خلاف حول شرعيتها، وهي "الكايروس" وتعني "الوقت المناسب" أو "الموسم" أو "الفرصة". الكايروس هي مناشدة لحُسن التوقيت أو السياق الذي يتم فيه نشر الحجة أو الخطاب.


إذ يتضمن الكايروس العوامل السياقيّة الخارجيّة للخطاب التقديمي نفسه ولكنها لا تزال قادرة على التأثير على كيفيّة استقبال الجمهور للحجة أو للرسالة، مثل الوقت الذي يتم فيه عرض الخطاب، والمكان الذي يتم فيه تقديم الحجة أو الرسالة، والمعلومات الأساسية المُقترحة وصلتها بالزمان والمكان، والتركيبة الديموغرافيّة للجمهور المُتلقي، مثل العمر والثقافة والإيمان والعقيدة والأيدولوجية وما إلى ذلك.


على سبيل المثال: إعلان قديم كان فعّالًا ومؤثرًا منذ خمسة عقود، لكنه لم يعد يتناسب مع معايير ومتطلبات اللحظة الراهنة. إذا جنّدنا نفس الإعلان الذي تم إنشاؤه منذ 50 عامًا وعرضناه اليوم بذات المحتوى، أي نفس المتحدث بنفس المؤهلات (الإيثوس).

وذات الحجة نفسها بنفس المنطق (اللوجوس)، ويستهدف كلاهما نفس المشاعر والقيم (الباثوس)، لكن كيفيّة الاستقبال من قِبل الجمهور المتلقي ستكون مختلفة تمامًا، لإن ما تغيّر هو السياق (التوقيت المناسب) الذي تم فيه عرض الحجة ( الكايروس).


وهنا عليَّ كمتلقي أن أجيد مهارة التمييز بين هذه الأساليب، وأن أكون يقظًا لما يبتغيه مني المُخاطِب، وذلك عن طريق فرز الحجة المنطقية (لوجوس) عن الحجة العاطفيّة (باثوس) وتفادي الاحتكام إلى الشخص (إيثوس) عوضًا عن الاحتكام إلى مضمون ما يلقيه هذا الشخص (لوغوس)، وعليَّ أن أضع قناعاتي قيد الاستجواب الذاتي على الدوام؛ هل هذا الخطاب شق طريقه عبر مشاعري أم عبر عقلي، والتدرّب على مهارة قنص الانفعالات التي يرغب الخطيب استثارتها بنفسي، وذلك عبر البحث عن المنطق والحجة والدليل في كل خطابٍ ومقال، وهذه ليست بمهمة سهلة لأن دغدغة الإيثوس والباثوس لمشاعرنا، وتعزيز معتقدانا أو دفعنا نحو شعورٍ زائفٍ بالأمان والطمأنينة قد تحجب عنا مجال الإبصار المنطقي، فنحابي من يحتضن مخاوفنا ويداعب أنانيتنا على حساب من يخاطب عقولنا بالمنطق الجاف والدليل المُضني.

"كم سيكون رائعًا لو أمكننا أن نقيّض لكل خدعةٍ جدليّة اسمًا مختصرًا وواضحًا، بحيث يمكن لنا - كلما ارتكب أحد هذه الخدعة أو تلك - أن نُوبّخه عليها للتو واللحظة".

2. المغالطات المنطقيّة:


"الحكيم هو من يُفصّل اعتقاده على قد البيّنة" ديفيد هيوم


يمكننا إيجاز المغالطات المنطقيّة على أنها شوائب أساسيّة في منطق الجدل والحوار تؤول إلى نقاشات غير مجديّة وتجعلها عقيمة، مجهِدة، بل ومُجهَضة منذ البداية، ومن منّا لم يجد نفسه يومًا في حلبة سجالٍ عبثي مسدود لا مخرج له ولا نتيجة تُستخلص منه.

يقول أفلاطون في محاورة جورجياس: "في جدال حول الغذاء يدور أمام جمهورٍ من الأطفال، فإن الحلواني كفيلٌ بأن يهزم الطبيب. وفي جدال أمام جمهور من الكبار، فإن سياسيًا تسلّح بالقدرة الخطابيّة وحيل الإقناع كفيل أن يهزم أي مهندس أو عسكريّ حتى لو كان موضوع الجدال من تخصص هذين الآخرين، وليكن تشييد الحصون أو الثغور! إن دغدغة عواطف الجمهور ورغباته لأشد أقناعًا من أي احتكامٍ إلى العقل".


فالحجة حين ترد في الواقع، لا تصلنا (نحن المُتلقّين) مجرّدة مُصفّاة، إنما تأتي ممزوجة بلحم اللغة ودمها، متلفّعة بأعراف الناس وانفعالاتهم، مورَّبة بتضاريس الواقع وبشؤون الناس وشجونها. فالحجة لا تأتينا عارية نقيّة، بل وراء طبقة كثيفة لزجة من الاعتبارات الدلاليّة والتداوليّة ومن طبيعة الخطيب (أو الخصم) وأيدولوجيته وسيكولوجيته ومن مَقام الحديث وسياق الجدل وعواطف الجمهور وانتماءاتهم وتحيّزاتهم.


من هنا، فإن فهم ورصد المغالطات المنطقية يشكّل أداة لا يمكن الاستغناء عنها في غربلة الحقائق والحجج عمومًا ولا سيما تلك التي تصدر من الإعلام السياسيّ خصوصًا، وذلك من خلال التعرّف على الحجج الضعيفة؛ فالمغالطات المنطقية، كما ذكرنا، هي أخطاء وعيوب في الاستدلال تجعل الحجة غير مقبولة منطقيًا.


حينما نرصد هذه المغالطات، يمكننا بسهولة تحديد تلك الحجج الضعيفة أو المضلِّلة التي قد تحاول بعض المواقع أو الأشخاص أن يقدموها لنا كبراهين أو كحقائق. وهذا يُمكّننا بالتالي من تقييم المصادر بشكل أفضل، فنصبح أقل عرضة للتأثر بالمعلومات المضلِّلة أو الأجندات السياسيّة المبنيّة على حجة عرجاء، ولتجنب الدعايات التجاريّة المراوغة أو البروباغاندا السياسيّة الكاذبة.


إلمامنا بالمغالطات المنطقية يعزز كذلك التفكير النقدي لدينا وتقييم المعلومات بناءً على الأدلة والمنطق بالإضافة إلى تحسين مهاراتنا في البحث وتحليل البيانات بشكل أكثر فعاليّة واستهلاك يقظٍ وحاذقٍ للمعلومات.

سأتطرق باقتضاب بهذا المقال إلى بعض من المغالطات المنطقيّة الأكثر انتشارًا:

- الحجة الشخصيّة (الشخصنة).

Argumuntum ad hominem.


وهنا يعمد المُغالِط في الطعن في الشخص القائل بدلًا من تفنيد قوله، أو قتل الرسول بدلا من تفنيد الرسالة.

مثال: يقترح نائب البرلمان "د" برنامج لتحسين الرعاية الصحيّة في البلاد، فبدلًا من مناقشة تفاصيل الخطة بعيوبها ومزاياها يرد عليه مرشح المعارضة: كيف لنا أن نثق أو نقبل بخطتك الصحيّة الجديدة وأنت تعاني من السمنة وتدَخّن ما يقارب ٣٠ سيجارة يوميًا، أنت لا تعرف حتى أن تعتني بصحتك الشخصيّة، ما بالك بصحة دولة كاملة؟!


تعتبر هذه مغالطة "الحجة الشخصيّة" لأن هنا هاجم مرشح المعارضة الخصائص الجسديّة لخصمه بدلًا من مناقشة محتوى الاقتراح نفسه. النقد موجّه لشخص المرشح "د" (حالته الصحية ومظهره الجسدي) وليس لمشروعه السياسي المُقتَرح، مما يحوّل الانتباه عن الجوهر الفكري والجانب التقني للقضية إلى هجوم شخصي غير ذي صلة بموضوع النقاش الأصلي وهو اقتراح خطة لتحسين الرعاية الصحيّة. فيزيح بهذه المغالطة نائب المعارضة النقاش الى تحليل صحة النائب "د" بدلًا من الخوض في تفاصيل اقتراحه.


(مغالطة رجل القش Srtaw man fallacy) هي تحريف حجة


الخصم وبترها عن سياقها الحقيقي لخلق نسخة أسهل للهجوم عليها. بدلاً من معالجة الحجة الفعلية، يتم استبدالها بتمثيل مشوه أو مبسّط. غالبًا ما يكون هذا التمثيل مبالغًا فيه أو غير دقيق، مما يجعله هدفًا أسهل للهجوم. إنه لأيسر كثيرًا من أن تنازل رجلًا دميةً من أن تنازل رجلًا حقيقيًا.

مثال:

النائب "أ": أعتقد أنه يجب علينا زيادة الإنفاق على التعليم والثقافة.

  إذن أنت تقول أننا يجب أن نخفض الإنفاق العسكري ونترك بلدنا عرضة للخطر؟ لن أوافق أبدًا على ذلك!

هنا، قام النائب "ب" بتحريف حجة النائب "أ". النائب "أ" اقترح فقط زيادة الإنفاق على التعليم والثقافة، لكن النائب "ب" صوّر ذلك بشكل مُغالِط على أنه دعوة إلى خفض الإنفاق العسكري وترك البلاد عرضة للخطر.

مغالطة الاحتكام إلى السلطة (Appeal to Authority) هي نوع من المغالطات المنطقية التي تحدث عندما يتم استخدام رأي أو حجة شخصيّة لشخص ذي سلطة أو مكانة معينة كدليل على صحة ادعاء ما، دون وجود أساس منطقي أو دليل فعلي يدعم هذا الادّعاء. بمعنى آخر، يتم الاستناد إلى سلطة الشخص بدلًا من تقديم أدلة موضوعية.

أمثلة على مغالطة الاحتكام إلى السلطة:

- "البروفيسور الشهير في الفيزياء قال إن العلاج بالطاقة فعّال، لذلك يجب أن يكون صحيحًا".

هنا، يتم استخدام سلطة البروفيسور في الفيزياء كدليل على صحة ادعاء غير مرتبط بمجال تخصصه (الطب أو العلاج البديل)، دون تقديم أدلة علميّة تدعم هذا الادعاء.

- "هذا المنتَج يجب أن يكون فعّالا لأن النجم الفلاني يستخدمه."

في هذه الحالة، يتم استخدام شهرة النجم كدليل على جودة المُنتَج، دون وجود دليل فعلي على ذلك.


وربما أشهر مثال على هذه المغالطة هو حينما نناقش صاحب مهنة أو متخصص بشأن يندرج تحت سقف تخصصه، فيكون الجواب: "أتجادلني بمهنتي؟"، "لا تثق بي، فهذا مجالي منذ ٢٠ عامًا" وهنا يحتكم صاحب التخصص إلى سلطة مهنته وسنوات تجربته بها بدلًا من اللجوء إلى الإقناع بالدليل والبرهان، وكأن التخصص او التجربة الطويلة بالعمل يشّكلون مصدرًا أخيرًا وحاسمًا للمعرفة.

وجب التنويه هنا أن السلطة ليست بالضرورة شخصًا معينًا بل كل مصدر نعتبره مرجعية نهائية للمعرفة، وقد تكون متمثلة بنظام، كالمؤسسة الدينيّة، أو بنصٍ، كالكتب المُقدَّسة وكتب النظريات الكبرى، وسلطة أهل العلم والاختصاص، أو قانونًا مدنيًا أو أخلاقيًا، وتقع المغالطة حين نعتبر السلطة بديلًا للبيّنة أو اتخاذها بيّنة دون البيّنة.

مغالطة الاحتكام إلى الجهل (Appeal to ignorance, Ad ignoratiam)


هي خطأ منطقي يحدث عندما يُستدَل على صحة ادعاء ما بسبب عدم وجود دليل ينفيه، أي أنه حق بالضرورة ما دام أحد لم يبرهن أنه باطل، والعكس صحيح أيضًا، أي الاستدلال على خطأ ادعاء ما بسبب عدم وجود دليل يؤكده. بمعنى آخر، يعتمد المُجادِل على "الجهل" أو النقص في المعلومات كأساس لقبول أو رفض فكرة معينة، بدلًا من تقديم أدلة وبراهين موضوعية/منطقية/إمبيريقيّة عليها؛ أي يُؤخذ هنا غياب الدليل مأخذ الدليل.

أمثلة:

"لا يوجد دليل علمي يُثبت أن حصان وحيد القرن غير موجود، إذن فهو موجود بالتأكيد!"

"لا يوجد دليل علمي بأنه ليس هناك خالق للكون، إذا حتمًا هنالك خالق للكون"

هنا يُستخدَم غياب الدليل النافي كـ"دليل" على الوجود، وهو استنتاج غير منطقي، لأن عدم إثبات العدم لا يعني إثبات الوجود.

(عبء الإثبات the burden of proof): يقع على عاتق مَن يطرح الادعاء، وعليه يقع حمل تقديم الأدلة. "البيّنة على من ادعى".

تعتبر المكارثيّة من أشهر الأمثلة على مغالطة الاحتكام إلى الجهل.


مغالطة المُنحدَر الزلق:

هي نوع من المغالطات المنطقيّة التي تفترض بشكل غير مبَرَّر أن خطوة أولى صغيرة ستؤدي بالضرورة إلى سلسلة من العواقب السلبيّة المتراكمة أو المُتفاقمة، دون تقديم دليل كافٍ على ذلك. بمعنى آخر، هي الادّعاء بأن فعلًا أو قرارًا معينًا سيؤدي حتمًا إلى سلسلة من الأحداث السلبية دون إثبات وجود علاقة سببية قوية بينها، وبدون تقديم دليل على أنه لا يمكننا أن نتوقف عند نقطة ما في هذه السلسلة (المُنحدر).

أمثلة على مغالطة المنحدر الزلق:

أمثلة : "إذا سمحنا بزواج المثليين، فبعد ذلك سنسمح بزواج الإنسان من الروبوتات ومن ثم من الحيوانات، ثم ستنهار قيم العائلة وقيم المجتمع" (هذا المثال يفترض أن السماح بزواج المثليين سيؤدي حتمًا إلى نتائج غير مرغوبة دون تقديم دليل مقنِع).


إذا سمحنا بتقنين الماريجوانا، فسيزيد تعاطي المخدرات، ثم سترتفع معدلات الجريمة، وسينهار المجتمع".


يتم هنا افتراض أن تقنين الماريجوانا سيؤدي حتمًا إلى انهيار المجتمع دون تقديم أدلة على هذه السلسلة من الأحداث.

"إذا سمحنا بالتعليم عن بعد عبر تطبيقات كتطبيق "الزوم"، فسيقل اهتمام الطلاب بالتعليم التقليديّ، ثم ستخسر المدارس مكانتها وستنهار تدريجيًا، وفي النهاية سينهار النظام التعليمي بأكمله."

هنا يتم افتراض سلسلة من الأحداث دون إثبات أن التعليم عن بعد سيؤدي حتمًا إلى انهيار النظام التعليمي. (لا يوجد برهان

على أن كل حدث في هذه السلسلة هو نتيجة حتميّة لما قبله وسبب لما يليه).

3. الانحيازات الإدراكيّة


تُعد الانحيازات الإدراكيّة أخطاءً لا واعية ومنهجيّة في التفكير، يقع بها الفرد عندما يعالِج المعلومات أو يُفسّرها، وقد تؤثر بالتالي على قراراته وأحكامه. يمكن أن تؤدي هذه الانحيازات إلى تشويه إدراك الفرد للواقع، مما يسفر عن فهم أو تأويل غير دقيق للمعلومات يفضي إلى تبني أحكام ومواقف أقل عقلانيّة.

قد تسهم الانحيازات الادراكيّة بحالاتها المتطرفة إلى بعض الأعراض الذُهانيّة.

"وَعَينُ الرِضا عَن كُلِّ عَيبٍ كَليلَةٌ

وَلَكِنَّ عَينَ السُخطِ تُبدي المَساوِيا"

يصف الإمام الشافعي بالبيت أعلاه ببلاغة شعريّة عبقريّة، واحدًا من أهم الانحيازات الإدراكيّة وأكثرها انتشارًا على الإطلاق، وهو "الانحياز التأكيديّ" (Confirmation Bias)

وهو الانحياز الإدراكي الوحيد - من بين قائمة طويلة ومتشعّبة من الانحيازات - الذي سأتناوله بهذا المقال، وهذا يعود لأهميته وكثرة انتشاره وتأثيره على كيفية استقبالنا للمعومات وطريقة معالجتها وبالتالي بلورة أفكارنا ومعتقداتنا، باعتباره عاملًا نفسيًا أساسيًا يلعب دورًا رئيسيًا في منظومة اتحاذ القرارات.


يتلخّص هذا الانحياز في ميول الناس إلى معالجة المعلومات من خلال البحث عن أو تفسير وتبني المعلومات التي تتفق وتتسق مع معتقداتهم الحاليّة. هذا النهج المُتحيّز في التفكير واتخاذ القرارات هو إلى حد كبير غير مُتعمّد إذ إنه يحدث على مستوى اللاوعي، ولا يقتصر في البحث والتفسير الانتقائيين اللذان يتناسبان مع الرأي القائم فحسب، بل إلى تجاهل الشخص للمعلومات التي تتعارض مع أراءه ومعتقداته أو تأويلها بشكل ما لتنسجم وتتماشى مع أفكاره الراهنة.


shutterstock



صحيح أننا نرى الانحياز التأكيدي في كل مكان وليس على الشبكة فحسب، بل إنه متواجد بكثافة على ما يبدو بغالبية التفاعلات الاجتماعيّة والبين-شخصيّة، من تأكيد المجموعات البشريّة لمعتقداتها الدينيّة عبر البحث عن معجزات وكرامات تُمتّن أعمدة إيمانهم، الى انحياز الأفراد لقرارتهم الاقتصاديّة واختياراتهم المهنيّة، مرورًا بعلاقتنا العاطفية والتركيز على صفات المحبوب التي نراها كإيجابيّة والتغاضي أو التغافل عن تلك السلبيّة، من خلال البحث الدائم عن أعذار لتبريرها، بل وخلقها (الأعذار) أحيانا. (على ما يبدو أن الانحياز التأكيدي هو المسؤول عن عمى الحب).



إلا أن هذا الانحياز ليس بجديد، ولم يظهر مع ظهور تكنولوجيات التواصل الحديثة، إنما له جدور تطوريّة تليدة وضاربة في القِدم، ترتبط ارتباطًا وثيقًا بتبنينا لأنماط تفكير "مُختصرة" سهّلت علينا فهم بيئتنا عبر معالجة موجزة للمعلومات، التي بدورها ساهمت بنجاعة في زيادة فرصنا على البقاء.


وذلك لأن تفضيل (تأكيد) المعلومات المُكتسَبة من الخبرات السابقة، إن كانت خبراتنا الشخصيّة أم خبراتٍ ورثناها من الآخرين، يقلّل من احتماليّة الوقوع في مخاطرات ومجازفات لا رجعة منها (إن من الأضمن لبقائي أن أُصدّق أن من وراء كومة العُشب تلك يترصّد لي تمساح، من أن أذهب لأختبر بنفسي وقد ينتهي بي الأمر حينها كوجبة عشاء) فالقرار السريع والحازم هنا هو الأقل خطرًا، وبالتالي الأصلح للبقاء بالمفهوم التطوّري.


shutterstock

أما على الصعيد الاجتماعي فساهم الانحياز التأكيدي بتماسك واستقرار المجموعات البشريّة؛ لنأخذ مثلًا وليس حصرًا، المعتقدات الغيبيّة داخل المجموعة الواحدة التي تم توطيدها من خلال الانحياز التأكيدي، إذ ساهمت هذه المعتقدات بتعاضد أعضاء المجموعة وعززت الثقة والتعاون بين أفرادها وهو أمر ضروري لمواجهة التهديدات الخارجية وتقاسم الموارد بنجاعة.


وعليه، من الصعب التخلّص من نمط تفكير كهذا، متجذّر عميقًا في سيرورتنا التطوريّة كبشر، ويُعتبر آلية من آليات تعاملنا مع البيئة، مع انفسنا، ومع أقراننا من البشر والحيوانات، أسهم في نسج شبكة علاقتنا الاجتماعية وأعاننا على البقاء. ولكن مع هذا، لا يزال هناك هامش للمناورة وفرصة لنظم الانحياز والحد من طغيانه علينا، وهذا يبدأ أولًا بالاعتراف أمام أنفسنا بأن لدينا انحيازات تمامًا كما للآخرين، وعلينا التعامل معها وكبحها قدر الإمكان، وقد يكون ذلك عبر تعزيز التفكير النقدي لدينا، البحث المتعمّد عن براهين وأدلة تفنّد ما نؤمن به أو نتبناه، والمساءلة والتشكيك الدائمين في فرضياتنا وآرائنا واستقصاء ما يدحضها وهذا قد يستدعي نوعًا من الشجاعة الكافية لإطلالة بين الحين والآخر مدفوعة بالفضول لمعرفة ما يحدث على الجانب الآخر من المتراس، وأن لا ننسى أن لا أحد معصوم عن الخطأ، ولا نظرية أو فكرة مهما كانت مقدَّسة لنا أو لغيرنا تعلو فوق النقد والنقض.

خلاصة:

نعيش في حقبة زمنيّة غير مسبوقة من حيث وفرة المعلومة، زخمها وسهولة انتشارها في كل مكان، مما جعل انتقائها وتصفيتها عمليّة مرهقة وتبدو أحيانًا خارجة عن السيطرة من جهتنا نحن المُستقبلين.


تناولت في هذا المقال ثلاث أدوات تفكير بإمكانها أن تسعفنا ولو قليلا بالتعامل مع هذا التسونامي المعلوماتي الجارف، الحد من تأثيره وكيفيّة معالجته وغربلته دون الوقوع في مصيدة الخطابات العاطفيّة، وبراثن المغالطات المنطقيّة والانحيازات الإدراكيّة. وذلك من خلال التعرّف على أساليب الخطاب، ثم تفكيكه والاستثمار الفكري في الخطابات التي تحاور منطقنا وعقولنا ومن ثم التحقق من مصداقية المصادر ومدى موثوقيتها، وعلى رصد المغالطات المنطقيّة وتشريحها كي لا نقع فرائس بين فكوك الخدع الجدليّة والبروباغندا الأيدولوجيّة و السياسية.

إن تبني عقلية الكشّاف الباحث عن الحقيقة، الذي يستقصى أثرها على الدوام عبر المسائلة والتشكيك الدائمين من خلال البحث، ليس فقط عن المصادر التي تصادق على أفكاره، بل البحث عن ما قد يكذّبها، عوضًا عن تبتي عقليّة الجندي الذي يتمترس مكانه ثابتًا ليذود عن أفكاره ومعتقداته بكل ما أتته مؤهلاته الإدراكيّة من قوة، قد يكون عاملًا مفتاحيًا بهذا الصدد.



هوامش|

1- The Doubling Rate of Knowledge in The Early 21st Century

Shreeyasha Pandey

The University of

Louisiana at Monroe, 2020

2- (المغالطات المنطقية، ٢٠٠٧، عادل مصطفى، ص ١٤).

3- المكارثية هي مصطلح يُشير إلى الحملة التي قادها السناتور الأمريكي جوزيف مكارثي في الخمسينيات من القرن العشرين، والتي اتسمت بالملاحقة السياسية بتهمة الانتماء إلى الشيوعية أو التعاطف معها وبالتالي التآمر والخيانة، وذلك دون أدلة كافية. اعتمدت هذه الحملة على الشكوك والاتهامات غير المثبتة، مما أدى إلى تضرر سمعة الكثيرين وفقدانهم وظائفهم، خاصة في مجالات الفنون والإعلام والسياسة.

5 - للمزيد أنظر:

Why facts don't change

our minds?

Elizabeth kolbert

The New Yorker 2017

5- للمزيد أنظر:

(The Scout Mindest, Julia Galif, 2017)

يتم الاستخدام المواد وفقًا للمادة 27 أ من قانون حقوق التأليف والنشر 2007، وإن كنت تعتقد أنه تم انتهاك حقك، بصفتك مالكًا لهذه الحقوق في المواد التي تظهر على الموقع، فيمكنك التواصل معنا عبر البريد الإلكتروني على العنوان التالي: info@ashams.com والطلب بالتوقف عن استخدام المواد، مع ذكر اسمك الكامل ورقم هاتفك وإرفاق تصوير للشاشة ورابط للصفحة ذات الصلة على موقع الشمس. وشكرًا!

phone Icon

احصل على تطبيق اذاعة الشمس وكن على
إطلاع دائم بالأخبار أولاً بأول

Download on the App Store Get it on Google Play