خلال السنوات الأخيرة، برز الذهب من جديد كأحد أهم الملاذات الآمنة في العالم، ليس فقط في أوقات الأزمات، وإنما أيضًا كخيار استراتيجي طويل المدى أمام الدول والبنوك المركزية.
ارتفاع الأسعار المتواصل للذهب، والذي وصل في بعض الفترات إلى مستويات قياسية تاريخية، يتزامن مع نقاش عالمي واسع حول ما يُعرف بظاهرة التخلّي عن الدولار (Dedolarization)، أي تقليص الاعتماد على العملة الأمريكية في التجارة العالمية والاحتياطيات الرسمية.
هذا الترابط بين المعدن الأصفر وانحسار سطوة الورقة الخضراء يثير أسئلة عميقة حول مستقبل النظام المالي العالمي، وعن الاتجاه الذي قد تسلكه الاقتصادات الكبرى في العقد المقبل.
shutterstock
الذهب: من زينة إلى ركيزة استراتيجية
لطالما احتفظ الذهب بمكانة استثنائية في الاقتصاد العالمي. فإلى جانب قيمته كمعدن ثمين وزينة، يُنظر إليه كمخزن للقيمة، خصوصًا في أوقات التضخم والاضطراب الجيوسياسي. وخلال العقدين الماضيين، ازدادت مشتريات البنوك المركزية من الذهب بشكل ملحوظ.
في عام 2022 وحده، سجلت البنوك المركزية حول العالم أكبر عملية شراء للذهب منذ نصف قرن تقريبًا، حيث اشترت ما يقارب 1,136 طنًا، وفق بيانات مجلس الذهب العالمي. هذه الظاهرة لم تكن مصادفة، بل تعبير عن بحث الدول عن بدائل أكثر استقرارًا من الدولار الذي يسيطر على ما يقرب من 60% من الاحتياطيات العالمية.
الدولار تحت الضغط
منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، تربع الدولار الأمريكي على عرش الاقتصاد الدولي بفضل "اتفاقية بريتون وودز"، ثم بفضل قوة الاقتصاد الأمريكي نفسه، وسوقه المالية الضخمة، وهيمنة النفط المسعّر بالدولار فيما يُعرف بـ"البترودولار".
shutterstock
لكن، مع مرور الوقت، بدأت مجموعة من العوامل تضعف هذه المكانة. العقوبات الاقتصادية الواسعة التي تفرضها الولايات المتحدة على دول مثل روسيا وإيران وفنزويلا، دفعت تلك الدول إلى البحث عن بدائل لتقليل تعرضها لنظام "سويفت" والدولار. الصين وروسيا، على سبيل المثال، اتجهتا لتسوية جزء متزايد من تجارتهما الثنائية باليوان والروبل. حتى الهند، القوة الاقتصادية الصاعدة، بدأت تدرس اعتماد الروبيه في بعض المعاملات الدولية.
هذا التوجّه نحو التخلّي التدريجي عن الدولار لا يعني بالضرورة انهياره الفوري، لكنه يفتح الباب أمام نظام مالي متعدد الأقطاب، يقل فيه الاعتماد على عملة واحدة مهيمنة.
العلاقة بين الذهب و"الـ Dedolarization"
مع تسارع الخطوات نحو عالم متعدد العملات، يعود الذهب إلى الواجهة كخيار "محايد". فهو ليس مرتبطًا بسياسة نقدية لدولة معينة، ولا يمكن تجميده أو مصادرته بسهولة عبر عقوبات، على عكس الاحتياطيات الدولارية.
الدول التي تسعى إلى تخفيض اعتمادها على الدولار، تجد في الذهب وسيلة لحماية ثرواتها من تقلبات العملات ومن النفوذ السياسي الأمريكي. هذا ما يفسّر زيادة الطلب العالمي على الذهب، وبالتالي ارتفاع أسعاره.
shutterstock
من زاوية أخرى، مع ضعف الثقة بالدولار أو توقع تراجعه، يندفع المستثمرون والأفراد أيضًا إلى شراء الذهب كأداة للتحوّط. هذا الطلب المزدوج، من الحكومات والأفراد، يعزز الاتجاه الصعودي للأسعار.
تداعيات على الاقتصاد العالمي
ارتفاع أسعار الذهب والتوجه نحو التخلي عن الدولار (Dedolarization) لهما انعكاسات متعددة على الاقتصاد العالمي:
تراجع سيطرة الدولار: إذا استمر الاتجاه الحالي، فإن نسبة الدولار في الاحتياطيات العالمية قد تنخفض أكثر، مما يقلل من قدرة واشنطن على استخدامه كسلاح جيوسياسي.
زيادة نفوذ العملات البديلة: مثل اليوان الصيني أو الروبل الروسي أو حتى العملات الرقمية للبنوك المركزية (CBDC)، التي بدأت تدخل في معادلة التجارة العالمية.
ضغوط على أسواق المال الأمريكية: خروج جزء من الاستثمارات العالمية من الدولار أو السندات الأمريكية نحو الذهب أو أصول أخرى قد يرفع تكاليف الاقتراض داخل الولايات المتحدة.
تحديات للدول النامية: رغم أن التنويع يبدو جذابًا، إلا أن أغلب التجارة الدولية والديون الخارجية ما زالت مرتبطة بالدولار. أي انتقال سريع قد يخلق تقلبات وضغوطًا على اقتصادات الدول النامية.
shutterstock
هل نحن أمام نظام عالمي جديد؟
المؤشرات الحالية توحي بأننا أمام مرحلة انتقالية، قد تمتد سنوات وربما عقودًا، بين نظام عالمي أحادي القطب تقوده الولايات المتحدة، ونظام متعدد الأقطاب تشترك فيه قوى صاعدة كالصين والهند وروسيا، إلى جانب الاتحاد الأوروبي. الذهب سيكون أحد الأعمدة الرئيسية لهذا التحوّل، باعتباره "عملة العالم الصامتة" التي لا تتأثر بالسياسة.
لكن، من جهة أخرى، لا يمكن الاستهانة بمرونة الدولار ومكانته الراسخة. السوق الأمريكية ما تزال الأعمق والأكثر سيولة، والاقتصاد الأمريكي ما يزال الأكبر عالميًا. أي بديل يحتاج إلى وقت طويل لبناء ثقة مماثلة.
الخلاصة
ارتفاع أسعار الذهب اليوم ليس مجرد انعكاس للتوترات الجيوسياسية أو التضخم العالمي. إنه مؤشر على تحولات أعمق في النظام المالي الدولي. الذهب يعود ليؤدي دورًا محوريًا، في وقت بدأت فيه الدول الكبرى تبحث بجدية عن مخرج من الهيمنة المطلقة للدولار.
الـ Dedolarization ليست حدثًا عابرًا، بل مسار طويل ومعقد. أما الذهب، فيبدو أنه الرابح الأكبر من هذا التحوّل، ليبقى على المدى الطويل صمام الأمان الوحيد وسط عالم يموج بالأزمات والتحولات.