في لحظة ما، تتحوّل الأحداث إلى مرآة أوسع مما تبدو عليه. القصف الإسرائيلي الذي استهدف الدوحة لم يكن مجرد خبر عاجل، بل فتح أبوابًا لأسئلة كثيرة تتعلق بمستقبل المنطقة، بعلاقة الخليج بالولايات المتحدة، وبالهامش الضيق الذي يتحرك فيه الفاعلون الإقليميون.
هنا خمس ملاحظات أولية قد تساعد على تفكيك المشهد
الملاحظة الأولى: بين حدث عابر ومحطة مفصلية
يطرح السؤال الأول نفسه: هل ما جرى في الدوحة هو مجرد "حادث أمني" محدود، سرعان ما سيُطوى في زحمة الأخبار القادمة من غزة ولبنان واليمن، أم أنه يشكل محطة مفصلية تُدخل الحرب في طور جديد؟
من زاوية أولى، قد يُنظر إلى القصف بوصفه امتدادًا لسياسة إسرائيلية طالما تجاوزت الحدود الجغرافية، حيث جرت العادة على أن تصيب يدها أي مكان تعتبره "ساحة تهديد"، من تونس في الثمانينيات إلى سورية ولبنان والعراق.
لكن من زاوية ثانية، فإن استهداف عاصمة خليجية مستقرة مثل الدوحة يحمل دلالات تتجاوز الحسابات العسكرية، ليصبح بمثابة تحدٍ مباشر للمنظومة الأمنية التي بنتها الولايات المتحدة في الخليج منذ نصف قرن. لذلك، فإن تجاهل أبعاده الاستراتيجية قد يكون خطأ، تمامًا كما أن تضخيمه خارج سياقه قد يقود إلى قراءة مبالغ فيها.
الملاحظة الثانية: قمة الأحد في الدوحة بين البروتوكول والقرارات المفصلية
الدعوة لاجتماع قمة في الدوحة يوم الأحد تمثل اختبارًا حقيقيًا للنظام العربي والخليجي على حد سواء. هل سنشهد مشهدًا كلاسيكيًا تُرفع فيه شعارات التضامن وتُتلى بيانات التنديد، أم أن القمة قد تكون منصة لإعادة تعريف العلاقة مع واشنطن؟
الولايات المتحدة تجد نفسها الآن في موقع حرج: فهي الضامن الأمني الأول للخليج، وفي الوقت نفسه حليف إسرائيل التاريخي. أي إشارة تصدر عن القمة بخروج – ولو جزئي – عن العباءة الأميركية ستُقرأ على أنّها تحوّل استراتيجي كبير.
لكن واقع الحال أن قرارات من هذا النوع ليست سهلة، فهي محكومة بشبكة المصالح الاقتصادية والعسكرية، بدءًا من القواعد الأميركية المنتشرة في الخليج، وصولًا إلى عقود الطاقة والسلاح. مع ذلك، يبقى مجرد انعقاد القمة في هذا الظرف إعلانًا بأن الدوحة لم تعد مجرد ساحة خلفية بل في قلب العاصفة.
الملاحظة الثالثة: سيناريوهات قطر ودول مجلس التعاون
إذا ما فكرت قطر – أو غيرها من دول المجلس – بالخروج من العباءة الأمريكية، فما هي السيناريوهات الواقعية؟ يمكن الحديث عن ثلاثة مسارات:
1. التمسك بالتحالف الأميركي: وهو الخيار الأسهل والأكثر أمانًا، لكن ثمنه استمرار الارتهان.
2. البحث عن مظلة بديلة: كفتح قنوات أوسع مع الصين وروسيا وتركيا، وهو خيار مغرٍ لكنه محفوف بالتحديات، إذ أن هذه القوى ليست جاهزة – ولا راغبة بالضرورة – لتحمل أعباء أمن الخليج.
3. الموازنة بين المحاور: أي أن تحاول قطر لعب دور الدولة الوسيطة التي تستفيد من الجميع دون أن تتحالف كليًا مع أحد. وهذا الخيار هو الأقرب إلى السياسة القطرية المعروفة منذ سنوات، لكنه يتطلب إدارة دقيقة للتناقضات.
في المحصلة، فإن الخروج الكامل من العباءة الأميركية يبدو شبه مستحيل في المدى المنظور، لكن مجرد طرح السؤال يعكس تغيرًا في المزاج السياسي الخليجي، ووعيًا متزايدًا بأنّ أمن المنطقة لا يمكن أن يبقى رهينة قرار في واشنطن أو تل أبيب.
الملاحظة الرابعة: قادة حماس ومساحة المناورة
أما بالنسبة لقيادة "حماس"، فإن الضربة تثير سؤالًا صعبًا: هل ما زال هناك مكان آمن؟ منذ سنوات، تتوزع قيادات الحركة بين غزة، والدوحة، وبيروت، وإسطنبول. ومع كل جولة تصعيد، تضيق مساحات المناورة. الضربة في الدوحة لم تضع فقط الأمن الشخصي للقادة في دائرة الخطر، بل هزّت أيضاً الثقة بالملاذات السياسية التي طالما اعتمدت عليها الحركة.
الخيارات أمام حماس محدودة: البقاء في غزة يعني الانكشاف أمام آلة الحرب الإسرائيلية؛ والحركة بين العواصم العربية والإسلامية صار محفوفًا بالمخاطر. وهنا يظهر السؤال الأعمق: هل ستدفع هذه التطورات الحركة نحو تعديل استراتيجيتها، سواء في التفاوض أو في إدارة علاقتها مع الفاعلين الإقليميين؟ أم أنها ستتمسك بخطاب المقاومة باعتباره مصدر شرعيتها الأساسي؟
الملاحظة الخامسة: أين مفتاح الحل؟
يبقى السؤال الأخير والأهم: أين يكمن مفتاح الحل؟ هل هو في غزة، حيث تتقرر مصائر المدنيين تحت النار؟ أم في تل أبيب، التي تراهن على كسر إرادة خصومها بالقوة؟ أم في واشنطن، التي تمسك بخيوط اللعبة الأوسع؟ أم ربما في العواصم العربية التي لم تعد تكتفي بالفرجة؟
الواقع أن مفتاح الحل ليس في مكان واحد، بل في توازن معقد بين الإرادة الفلسطينية، والضغوط الإقليمية، والمصالح الدولية. لكن المؤكد أن الضربة القطرية كسرت وهمًا قديمًا: أن الخليج بعيد عن نيران الصراع. فإذا كانت النيران قد وصلت إلى الدوحة، فهذا يعني أن الصراع لم يعد محصورًا في جغرافيا صغيرة، بل صار معركة على شكل النظام الإقليمي بأسره.