شهدت الدورة الثمانين للجمعية العامة للأمم المتحدة لحظة وُصفت بالتاريخية أو المحطة المفصلية، حين مجموعة دول إضافية بدولة فلسطين، وهي دول غربية بالأساس لها تأثير كبير على الساحة الدولية مثل فرنسا وبريطانيا واستراليا وكندا والبرتغال، لترتفع قائمة الدول المعترِفة إلى نحو مائة وسبعٍ وخمسين دولة من أصل مائة وثلاثٍ وتسعين.
لم تأت هذه الخطوة من فراغ، بل تمثل امتدادًا لمسار طويل من السعي الفلسطيني نحو الاعتراف والشرعية الدولية، وتكشف في الوقت نفسه عن التناقض الصارخ بين الإجماع الدولي على عدالة القضية الفلسطينية وبين استمرار الاحتلال الإسرائيلي على الأرض.
وإن كانت هذه الخطوة توصف بالإنجاز الدبلوماسي، فهي تثير أسئلة جوهرية حول قيمتها الحقيقية وتأثيرها على حياة الفلسطينيين اليومية.
من اعترافات "العالم الثالث" إلى اعترافات الغرب
في أواخر الثمانينيات، عقب إعلان الاستقلال الفلسطيني في الجزائر عام 1988، سارعت عشرات الدول من آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية إلى الاعتراف بدولة فلسطين. كانت هذه الاعترافات مهمة من حيث العدد، لكنها بقيت محصورة في "العالم الثالث"، ولم يكن لها وزن كافٍ لتغيير موازين القوى.
أما اليوم، فإن دخول دول غربية مؤثرة – مثل فرنسا وبريطانيا وأستراليا وكندا والبرتغال – على خط الاعتراف، يعطي الخطوة وزنًا نوعيًا مختلفًا، لأنها تأتي من داخل المعسكر الذي طالما قدّم الغطاء السياسي لإسرائيل. هذا التحول يشير إلى تآكل تدريجي في شرعية الاحتلال، حتى داخل دوائر الدعم التقليدية له.
الشرعية مقابل الواقع
لكن هنا يبرز السؤال الأصعب: ما معنى هذا الاعتراف إذا كان الاحتلال مستمرًا؟ ما جدوى أن تعترف 157 دولة بفلسطين بينما الفلسطيني في غزة يفتقد أبسط مقومات الحياة، وفي الضفة الغربية يواجه مصادرة أرضه واعتقال شبابه؟ الاعتراف يمنح شرعية سياسية وقانونية على الورق، لكنه لا يوقف جرافة استيطان ولا يفتح معبرًا مغلقًا ولا يحرر أسيرًا.
الفلسطيني العادي
بالنسبة للفلسطيني العادي، الاعتراف لا يغيّر شيئًا من واقعه اليومي. بل على العكس، هذا التناقض بين الاعتراف الدولي وبين استمرار الانتهاكات يفاقم شعور الفلسطينيين بالخذلان، ويدفع كثيرين إلى التشكيك – بل الكفر – بالمنظومة الدولية التي تبدو عاجزة عن ترجمة أقوالها إلى أفعال. فماذا تعني "الشرعية الدولية" إذا كانت تظل مجرد حبر على ورق أمام سطوة القوة العسكرية؟
Hebron Palestine - shutterstock
لأخطر أن الجانب الإسرائيلي غالبًا ما يوظف موجات الاعتراف هذه كذريعة لتشديد قبضته الأمنية، خصوصًا في الضفة الغربية، حيث تزداد الحواجز والبوابات العسكرية التي تعرقل حياة الناس اليومية، ويُلوَّح بخطط ضم أجزاء واسعة من الأرض كإجراء عقابي جماعي.
Ramallah Palestine - shutterstock
وجاءت قرارات رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو الأخيرة لتؤكد ذلك، إذ أغلق معبر الكرامة – المنفذ الوحيد للفلسطينيين إلى العالم الخارجي – ما جعل الضفة الغربية تعيش حالة أقرب إلى الحصار، في رسالة انتقامية واضحة على الاعترافات الدولية. وهنا يبرز السؤال المرير: ما جدوى كل هذه الاعترافات إذا بقيت مجرّد حبر على ورق أمام سطوة القوة العسكرية؟
بين الرمزية والمحاسبة
لا شك أن الاعتراف يعزز حضور فلسطين في المحافل الدولية، ويفتح الباب أمام مساءلة إسرائيل قانونيًا، لكنه يظل رمزيًا ما لم يقترن بإجراءات عملية: عقوبات، ضغوط اقتصادية، وتفعيل آليات المحاسبة الدولية. دون ذلك، سيبقى الفلسطيني ينظر إلى هذه الاعترافات كحدث دبلوماسي يُحتفى به في المؤتمرات، لكنه لا يغيّر شيئًا في المخيمات أو تحت الحصار.
Brussels - shutterstock
الخلاصة
اعتراف مائة وسبع وخمسين دولة بدولة فلسطين يمثل خطوة نوعية مقارنة بالماضي، ويكشف عن تغير في مواقف دولية طالما كانت منحازة لإسرائيل.
لكنه، في ظل استمرار الاحتلال، لا يتجاوز كونه إعلان نوايا لا يخفف معاناة الناس. الفلسطيني اليوم لم يعد بحاجة إلى مزيد من البيانات والاعترافات، بل إلى أفعال ملموسة تُنهي الاحتلال وتضمن له حقوقه الأساسية. وحتى ذلك الحين، يبقى الاعتراف مجرد شعارات دبلوماسية لا تسمن ولا تغني من جوع بالنسبة للفلسطينيين، وتظل الشرعية الدولية معناها مفرغًا.