ما بين بطءٍ مزمن يُميّز الدبلوماسية الأوروبية ورغبة في إثبات الحضور على المسرح الدولي، يتحرّك الاتحاد الأوروبي اليوم بخطوات حذرة تجاه إسرائيل. إعلان رئيسة المفوضية أورسولا فون دير لاين عن تعليق بعض المدفوعات الثنائية مع تل أبيب، والتلويح بفرض عقوبات على وزراء إسرائيليين متطرّفين، بدا للبعض لحظة مفصلية. لكنه يطرح سؤالًا لا مفر منه: هل يشكّل بداية تغيير في الموقف الأوروبي، أم أنّه مجرد محاولة متأخرة لحفظ ماء الوجه أمام شعوب غاضبة اجتاحت شوارع العواصم الأوروبية منذ اندلاع الحرب على غزة؟
بطء مزمن وأزمات توافق
يظهر التاريخ أن الاتحاد الأوروبي يتحرّك ببطء شديد في الملفات السياسية الحساسة، ولا سيما عندما يتعلق الملف بفلسطين وإسرائيل. هذا البطء ليس مجرد اختيار، بل نتيجة لبنية الاتحاد نفسه، حيث يخضع كل قرار لآلية توافق معقّدة بين 27 دولة. الانقسام الراهن يوضّح ذلك بجلاء: إيرلندا وإسبانيا تطالبان بمحاسبة إسرائيل، بينما تصطف ألمانيا والمجر خلف تل أبيب وفق خط تاريخي ثابت. ووسط هذا التناقض، يخرج الاتحاد بخطوات رمزية، متأخرة، وأحيانًا بلا مضمون عملي، لكنها تتيح له أن يقول إنه "فعل شيئًا".
بين الرمزية والتحوّل
الرمزية هنا ليست بلا معنى. مجرد الحديث عن تعليق جزئي لاتفاقية الشراكة أو فرض عقوبات على وزراء متطرفين يعكس تبدّلًا في المزاج الأوروبي. صور غزة وضغط الشارع كسرا جدار الصمت. لأول مرة منذ سنوات طويلة، يجد القادة الأوروبيون أنفسهم مضطرين لترجمة خطابهم الأخلاقي إلى خطوات عملية، ولو محدودة.
حدود الفعل الأوروبي
ومع ذلك، لا ينبغي المبالغة في التوقعات. الإجراءات الأخيرة لم تمسّ صلب العلاقة الاستراتيجية مع إسرائيل. فهي لا تقترب من التعاون الأمني والاستخباري، ولا تهدد الجوهر الاقتصادي، بل تظل محصورة في مساحات يمكن التحكم بها سياسيًا. تعليق المدفوعات الثنائية لا يعني وقف التمويل الأوروبي الشامل، والحديث عن "تعليق جزئي لاتفاقية الشراكة" جاء مقيدًا بعبارة "فيما يتعلق بالتجارة"، ما يجعل التأثير الفعلي محدودًا. هذه القيود تكشف عن فجوة بين الخطاب العاطفي والأدوات السياسية التي يملكها الاتحاد بالفعل.
البُعد الرمزي وحفظ ماء الوجه
خطاب فون دير لاين الذي رسم مشاهد "أطفال يُقتلون وأمهات يحملن جثث أبنائهم" كان قويًا في تعبيره الإنساني، لكنه أيضًا أداة سياسية لحفظ ماء الوجه أمام الرأي العام الأوروبي، خصوصًا مع تصاعد الاحتجاجات في باريس وبرلين ومدريد وغيرها. هنا تكمن المفارقة: ما يُقدَّم كخطوة أخلاقية قد يتحوّل إلى مجرد محاولة لامتصاص الغضب الداخلي وتخفيف الضغط الشعبي، من دون أن يحمل إرادة سياسية حقيقية لتغيير المعادلة على الأرض
.
سابقة أم محطة عابرة؟
مع أنّ الخطوات الأوروبية الحالية لا تشكّل ضغطًا استراتيجيًا على إسرائيل، فإنها تحمل قيمة رمزية كسابقة سياسية. فمنذ عقود، نادرًا ما لجأ الاتحاد إلى التلويح بعقوبات أو بتعليق اتفاقيات مع تل أبيب. إذا استمرّت الحرب وتفاقمت كلفتها الإنسانية والسياسية، قد تتحوّل هذه الإجراءات الرمزية إلى مدخل لمسار أكثر صرامة. لكن هذا مرهون بمدى استعداد الاتحاد لتجاوز خلافاته الداخلية وتحمل تبعات مواجهة علنية مع إسرائيل، وهو أمر غير محسوم بعد.
اليوم، يقف الاتحاد أمام امتحان يتجاوز غزة نفسها. إنه امتحان لمكانته الدولية. فهل يملك الجرأة على الانتقال من الرمزية إلى الفعل؟ أم سيكتفي مجددًا بالخطاب، تاركًا الساحة للاعبين الكبار: واشنطن، موسكو، وبكين؟
بين حفظ ماء الوجه والتحوّل الحقيقي، يبقى السؤال معلّقًا. أوروبا أمام مفترق طرق، وما ستفعله في الأسابيع المقبلة سيحدّد إن كانت خطواتها بداية مسار جديد، أم مجرد محاولة أخرى لستر عجز قديم.
وبرأيي، ما لم يُترجم هذا الحراك إلى خطوات عملية وضغوط سياسية ملموسة، فلن يتجاوز كونه محاولة للحفاظ على المصداقية الأوروبية أمام الرأي العام، مع بقاء البطء المزمن سمة واضحة للسياسة الخارجية للاتحاد.