في تطور أثار جدلًا واسعًا على المستوى السياسي والثقافي، أعلنت الإدارة المدنية الإسرائيلية عن نيتها مُصادرة نحو 1800 دونم من أراضي موقع سبسطية الأثري الواقع في الضفة الغربية. تُعد هذه الخطوة الأكبر من نوعها حتى الآن على صعيد استملاك الأراضي الأثرية في المناطق الفلسطينية المحتلة.
سبسطية: موقع أعمق من مجرد حجر وتلال
سبسطية (Sebastia) هي قرية فلسطينية تاريخية تقع شمال نابلس. المكان غنيٌّ بالتراث الأثري، إذ يحتوي على بقايا تعود إلى ممالك قديمة كالمملكة الإسرائيلية، والرومانية، والبيزنطية، والصليبية.
المنطقة التي أعلن عن مصادرتها هي القسم الغربي من الموقع، وهي تضم بساتين زيتون تابعة لملّاك فلسطينيين. وتُشير منظمة "السلام الآن" إلى أن الجزء المفتوح أمام السياح اليوم يغطي نحو 60 دونمًا فقط من المجموع، في حين أن المصادرة تشمل مساحة ضخمة تزيد بكثير.
وسبق أن خصّصت الحكومة الإسرائيلية ميزانية ضخمة لـ"تطوير" الموقع: في 2023 أُقِرّت خطة بقيمة 32 مليون شيكل لـ"تطوير" سبسطية، وفي 2025 بدأت الحفريات الأثرية فيها. بالقرب من الموقع الأثري أيضًا بدأ البناء على ما يُعرف بمحطة سكك الحديد "مسعودية سبسطية" لتحويلها إلى منطقة سياحية استيطانية - وهو ما يثير مخاوف من ربط هذا "التطوير" بمخططات توسيع المستوطنات في المنطقة.
من وجهة نظر الفلسطينيين، هذه الخطوة تأتي في إطار محاولات لتغيير الهوية الثقافية للمنطقة، وتحويل جزء من تراثها إلى "تراث إسرائيلي" بهدف التمكين الاستيطاني. اللجنة الوطنية للتراث الفلسطيني اعتبرت القرار "انتهاكًا صارخًا" للقانون الدولي، ووصفت الاستملاك بأنه جزء من مشروع أوسع لتقسيم الضفة وتثبيت السيطرة الإسرائيلية.
أماكن أثرية أخرى في الضفة الغربية: من المخاطر إلى المصادرة
سبسطية ليست الوحيدة في دائرة استهداف السياسات الإسرائيلية. بحسب تقارير حقوقية، فقد أصدرت الإدارة المدنية أوامر عسكرية تصنف حوالي 63 موقعًا أثريًا في الضفة الغربية كمواقع "تاريخية أثرية إسرائيلية". هذا التصنيف القانوني يمنح إسرائيل مزيدًا من الصلاحية لفرض السيطرة على الأراضي المحيطة بهذه المواقع، وهو ما يلقي بظلال من الشك على النوايا من ورائه.
كما تحدثت هيئة "مقاومة الجدار والاستيطان" الفلسطينية عن نية استملاك 4600 دونم من أراضي منطقتي سبسطية وبرقة في نابلس. هذا التوسع لا يُنظر إليه على أنه مجرّد حماية تراث، بل كجزء من مخطط كبير للضم التدريجي، وتوظيف التراث الأثري كغطاء قانوني يستغلّه الاحتلال لزيادة سيطرته على الأرض.
من جهة أخرى، أوردت بعض التقارير أن القانون الإسرائيلي للآثار تمّ تعديله ليمنح سلطة الآثار الإسرائيلية صلاحية شاملة للعمل في الضفة الغربية، بما في ذلك التنقيب والتصنيف في مناطق تخضع للسيطرة الإسرائيلية الكاملة (منطقة ج).
وقد اعتبر حقوقيون هذا القانون ذريعة لضم الأراضي بشكل قانوني، عبر تصنيفها كمواقع تراث إسرائيلي، أو تحويلها إلى "مناطق جذب سياحي" تعمل كأدوات لفرض حقائق على الأرض.
السياسات الإسرائيلية تجاه التراث الأثري: دوافع وتداعيات
هذه الحملة على المواقع الأثرية تأتي ضمن سياسة أوسع لإعادة قراءة التاريخ وربط التراث الأثري الفلسطيني بما يُعرف بـ "التراث اليهودي" — وهي محاولة يرى الفلسطينيون أنها تهدف إلى شرعنة السيطرة الإسرائيلية على الأرض من خلال البعد الثقافي والتاريخي.
ويشير حقوقيون فلسطينيون إلى أن الآثار تُستخدم كذريعة حديثة للضم. فمصادرة الأراضي باسم "الحفاظ على التراث" ليست جديدة، لكنها تندرج في استراتيجية أوسع: تحويل المواقع إلى محطات سياحية تخدم مشاريع استيطانية، وتعزيز حضور إسرائيلي في قلب الضفة.
من الناحية القانونية، هذا الأمر يفتح تساؤلات عن التزام إسرائيل بالقانون الدولي، خصوصًا بروتوكول لاهاي لحماية التراث الثقافي وقت الاحتلال (اتفاقية لاهاي 1954) واتفاقية اليونسكو للتراث 1972، التي تنص على أن الاحتلال لا يمكنه نقل ملكية الأحياء أو الأراضي لصالحه تحت ستار "الحفاظ الأثري" إذا لم يكن ذلك لخدمة السكان الأصليين.

shutterstock
التبعات على الفلسطينيين: الهوية، الاقتصاد، السيادة
من الجانب الفلسطيني، قرار مصادرة هذه المساحات يهدد ليس فقط الحق في الأرض، بل أيضًا الهوية التاريخية والثقافية. فسبسطية، مثلًا، ليست موقعًا أثريًا فقط، بل هي جزء من ذاكرة الفلسطينيين وتراثهم. تحويلها إلى مشروع سياحي إسرائيلي يمكن أن يمحو هذه الهوية، ويعيد كتابة التاريخ.
اقتصاديًا، الأرض المزمع مصادرتها تضم بساتين زيتون يملكها فلسطينيون، وهي مصدر رزق لهم. الاستيلاء عليها يعني خسارة مادية مباشرة وأثرًا طويل الأجل على سكان القرية.
من جهة أخرى، يشكّل هذا الأمر عملًا من أعمال "الضم غير الرسمي" - أي ترسيم السيطرة الإسرائيلية من دون إعلان رسمي ضمّ، عبر أدوات قانونية وإدارية تخلق حقائق على الأرض لا رجوع عنها بسهولة. هذه السياسة، كما يشير مراقبون، تتماشى مع التوسع الاستيطاني وتثبيت النفوذ الإسرائيلي في الضفة الغربية.
رد الفعل الفلسطيني والدولي
أدانت اللجنة الوطنية للتراث الفلسطيني قرار المصادرة، معتبرة أنه يشكل انتهاكًا للتراث الفلسطيني وسيطرةً على الهوية الحضارية. وقد دعت إلى تعبئة أدوات حقوقية ودبلوماسية لحماية المواقع الأثرية ومنع تحويلها إلى مراكز استيطانية أو سياحية إسرائيلية.
منظمات حقوقية مثل "السلام الآن" أيضًا ربطت هذه الخطوة بمخطط أوسع لضم الأراضي، محذّرة من استبعاد الفلسطينيين من الوصول إلى موقعهم الأثري، خصوصًا أن أجزاء كبيرة من الموقع المعلنة للاستيلاء عليها ليست جزءًا من المناطق التي يزورها السياح اليوم.
بالنسبة للمجتمع الدولي، مثل هذه المصادرات تثير مخاطر قانونية وأخلاقية بحسب خبراء القانون الدولي، خاصة أنها تقع في أراضٍ محتلة، وواجهت بالفعل انتقادات من قبل مؤسسات تراث دولية ومنظمات حقوق الإنسان.
الخلاصة: إرث أم استيطان؟
خطوة الإدارة المدنية لمصادرة 1800 دونم في موقع سبسطية الأثري ليست مجرد عملية تطوير تراثي؛ بل هي جزء من استراتيجية أعمق، يرى الفلسطينيون أنها تهدف إلى ترسيخ السيطرة الإسرائيلية على الأراضي الفلسطينية من خلال التنميط الأثري. تحويل المواقع الأثرية إلى مشاريع سياحية إسرائيلية يمكن أن يؤدي إلى تغييب الهوية الفلسطينية، وكأن التاريخ يُكتب من جديد بطريقة تخدم أطرافًا معينة.
في حين تدعو القيادة الفلسطينية والمؤسسات الحقوقية إلى مقاومة هذه المصادرات والدفاع عن التراث والتاريخ، يطرح هذا الصراع سؤالًا كبيرًا حول مستقبل الضفة الغربية: هل ستكون هذه الخطوات أداة للسيطرة والضمّ؟
إذا لم يتم ردع هذه السياسات، فقد تصبح المواقع الأثرية الفلسطينية لا تتعلق فقط بالماضي، بل أيضًا بمستقبل الصراع على الأرض والهوية.