حين ظلمنا "النعامة" وبَرّأنا الإنسان

حين ظلمنا

في لحظة تاريخية تُختبر فيها إنسانيتنا، ويُذبح فيها الناس على مرأى من العالم، في غزة المحاصرة والمجوعة والمتروكة للموت البطيء، نجد أنفسنا أمام سؤال أخلاقي عسير: هل ما زلنا نرى؟ هل ما زال فينا بقية من الارتباط الوجداني مع من يُبادون على بعد كيلومترات؟ أم أننا دفنّا رؤوسنا كما فعلت النعامة... أو كما اتُهمت زورًا أنها تفعل؟

لكن مهلاً، النعامة بريئة.. أما نحن؟


النعامة لم تهرب.. نحن فعلنا


لعقود، رددنا مثلًا شعبيًّا يقول: "دفن رأسه كالنعامة في الرمال"، لكن الحقيقة أن النعامة لا تهرب، بل تحتمي بجماعتها، وتحرس صغارها حتى الموت، وتركض إذا لزم الأمر بسرعة تقهر الخطر.

أما الإنسان،  فيعيش مشهدًا أقرب إلى دفن الرأس الجماعي، لا في الرمال، بل في سيل الحفلات، وصور "اللايف ستايل"، ووجبات الإفطار المصقولة، بينما يموت الناس جوعًا في غزة.




غزة تُجَوّع... ونحن أين؟


منذ شهور، ومع كل يوم يمر على العدوان الإسرائيلي، يتحوّل الحصار في غزة إلى خطة تجويع ممنهجة:

أطفال ينهارون من شدة الجوع، نساء تقتلع أوراق الأشجار لتطهوها، ورجال يلفظون أنفاسهم على أبواب المشافي بلا كهرباء ولا دواء ولا خبز.


Shutterstock



وفي الطرف الآخر، أو في الفضاء الآخر، نرى مشاهد يومية مناقضة: أعراس فخمة، طقوس تصوير أطباق الطعام من كل زاوية، دعوات لعروض مطاعم، وتفاعل على صور موائد الطعام.

قد يبدو الحديث قاسيًا... لكنه حقيقي.


سقوط المعايير في عصر الصورة


في عصرٍ تُشكّل فيه الصورة رأيًا عامًا، لم يعد الصمت مجرّد امتناع عن الكلام، بل مشاركة في التواطؤ. حين نختار نشر لحظة استجمام بينما تُنشر صور لأطفال يتضوّرون جوعًا، فإن ذلك يرسل رسالة.

ربما لم نقصدها، لكن وقعها جارح.


Shutterstock



 نحن نُسهم في تطبيع القسوة، حين نضع موت الغزيين ومآسيهم على الهامش، ونستبدلها بعرض يومياتنا كأن العالم بخير.

في لحظة كهذه، تصبح الصورة فعلًا سياسيًا، حتى وإن كنا نظن أنها مجرّد "بوست عادي".


فردانية قاتلة في زمن المذابح


وسائل التواصل الاجتماعي جعلتنا نعيش في فقاعات صغيرة من الرفاهية الوهمية. لم نعد نرى غزة إلا كصورة عابرة، أو قصة نتخطاها بـ"سوايب"، أو خبر نحجبه لأن "اليوم يوم فرح".

لقد انفصلنا عن أبناء جلدتنا، وتحوّلنا إلى مستهلكين لمشاهد الحرب، ولسنا مشاركين في همها.

هذه ليست فقط ظاهرة عالمية، بل كارثة أخلاقية فلسطينية، حين يفقد المجتمع الحد الأدنى من التفاعل مع أكثر قضاياه مصيرية.


منصات التأثير بوعي منقوص



المفارقة أن كثيرًا من صانعي المحتوى والمؤثرين الذين يتباهون بـ"التأثير" ويتحدثون عن المسؤولية المجتمعية، يغيبون تمامًا عن المشهد حين تتعلق القضايا بغزة.

التفاعل الموسمي، أو حين يكون الترند ضاغطًا، لا يُعفيهم من مسؤولية الوعي المتواصل.

هؤلاء لا يُطلب منهم أن يتحوّلوا إلى نشطاء سياسيين، بل أن يقدّموا خطابًا إنسانيًا متزنًا، يذكّر، يواسي، ويُبقي القلوب مفتوحة.

التأثير الحقيقي لا يُقاس بعدد المشاهدات، بل بالأثر على الوعي العام.


مقاربة مهنية: الحياة لا تتوقف، ولكن هل نحتفظ بالوعي؟



من منظور اجتماعي وإعلامي، لا يُتوقع من المجتمعات أن تُجمّد حياتها كليًا خلال الحروب، خصوصًا إن لم تكن في قلب الحدث.

لكن يُنتظر  على الأقل  أن تُبقي هذه المجتمعات عينيها مفتوحتين على الألم القريب، وأن تخلق مساحة رمزية للوصال، سواء عبر نشر التوعية، أو دعم الحملات، أو حتى الحديث بلغة متوازنة عن الواقع.


بعض المبادرات المحلية تحاول ملء هذا الفراغ، من خلال جمعيات خيرية أو فعاليات تضامنية، لكن السؤال الأوسع لا يزال قائمًا:

هل يكفي هذا؟ وهل وصلنا إلى لحظة نحتاج فيها إلى إعادة التفكير في علاقتنا الثقافية والأخلاقية بغزة؟


إرث اللامبالاة لا يُورث


حين يغيب التفاعل، ويغدو الصمت هو القاعدة، فإننا لا نفقد فقط تعاطفنا اللحظي، بل نؤسس لجيل كامل لا يرى في غزة إلا بقعة جغرافية بعيدة، أو "مشكلة مزمنة" لا تخصّه.

أخطر ما في الانفصال الوجداني هو تحوّله إلى إرث، نمرّره بلا وعي لأبنائنا. وبالتالي، فإن استعادة الوعي اليوم ليست مجرد رد فعل على مجاعة أو حصار، بل هي معركة على المعنى، على ما نريد لهذا الجيل أن يُدركه عن ذاته، وعن شعبه، وعن معنى أن تكون فلسطينيًا في زمن التخاذل.


نحو وعي جمعي لا ينفصل


لا نطرح هذه الأسئلة لننتقص من أحد، بل لنؤكد أن الانفصال الوجداني بين أجزاء شعب واحد ليس مسألة هامشية، بل قضية تمسّ هويتنا الجمعية، تماسكنا، ومسؤوليتنا أمام أنفسنا وأمام من سيأتون بعدنا.

ربما لا نستطيع أن نوقف الحرب أو نمنع الجوع، لكننا نملك أدوات حقيقية لإبقاء غزة حاضرة، لا كخبر عابر، بل كقضية متجذّرة في وعينا، وثقافتنا، وسلوكنا اليومي.

الرسالة ليست صرخة، بل همسة، همسة نوجهها لأنفسنا، ولأطفالنا، ولجيل ينشأ أمام أعيننا: كيف نُفسّر لهم صمتنا؟ ماذا نُريدهم أن يروا؟ أيّ صورة عن حرب امتدت لسنتين نتركها لهم؟

وأي معنى نغرسه في وعيهم حين يرون مجاعة في غزة، وحياة منقطعة عنها هنا؟




إن أطفالنا لا يتعلمون فقط من الكتب، بل من مواقفنا، من منشوراتنا، من ما نختار أن نُظهره ونُخفيه، من ما نحتفي به أو نتجاهله.


وإذا ما اخترنا أن نُبقي غزة حيّة في كلامنا، في صورنا، في بيوتنا، في مناهجنا العائلية، فإنهم سيكبرون وهم يعرفون أن هناك شعبًا واحدًا، لا تُقسّمه الحواجز، ولا تُضعفه الظروف، ولا تُشتّته الرغبة في النجاة الفردية.


فلنحاول أن نُبقي خيط الوصل حيًا... لأجلنا، ولأجلهم. بالصوت، بالصورة، بالكلمة، وبالنية.

لعل هذا ما يجعلنا نقترب أكثر من إنسانيتنا، ومن بعضنا.

اقرأ\ي أيضًا | 

الاستسلام بين المذلة والبصيرة: قراءة في مواقف الشعوب من الاحتلال والهزيمة

يتم الاستخدام المواد وفقًا للمادة 27 أ من قانون حقوق التأليف والنشر 2007، وإن كنت تعتقد أنه تم انتهاك حقك، بصفتك مالكًا لهذه الحقوق في المواد التي تظهر على الموقع، فيمكنك التواصل معنا عبر البريد الإلكتروني على العنوان التالي: info@ashams.com والطلب بالتوقف عن استخدام المواد، مع ذكر اسمك الكامل ورقم هاتفك وإرفاق تصوير للشاشة ورابط للصفحة ذات الصلة على موقع الشمس. وشكرًا!

phone Icon

احصل على تطبيق اذاعة الشمس وكن على
إطلاع دائم بالأخبار أولاً بأول

Download on the App Store Get it on Google Play